د.موسى بن عيسى العويس
* توقفت عند بيت من الشعر، ظاهره المدح، وباطنه القدح، لكنه يصور جانباً من جوانب إزجاء الوقت دون فائدة، أو التعلق بما لا قيمة له في الحياة. ماذا يقول هذا الشاعر الجاهلي، أيّا كان هدفه ومغزاه:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
قبيلة كاملة لها حاضرها وماضيها، وتطلعاتها وآمالها يكون شغلها الشاغل (قصيدة)، مهما كانت تلك القصيدة في معناها ومبناها، مهما حملت من أمثال وحكم، مهما حفلت به من أخيلة وصور، مهما تضمنته من قيم ومبادئ إذا افترضنا ذلك، فالواقع أن الإسلام بقيمه وغاياته سفه الكثير مما كان يتفاخر به العرب، ويعتقدون صوابه خلال قرون في جاهليتهم، ورغم ذلك ربما استمر بعض هذه العادات والتقاليد، أو لنقل السلوكيات حتى عصرنا الحاضر تتداول بشيء من الإعجاب. كان ذلك بطبيعة الحال حينما كان للقبيلة سلطتها ونفوذها وحضورها وهيمنتها على تفكير الفرد حتى المصادرة له، وعلى الجماعة المتصارعة المتطاحنة على كل شيء، عظيماً أو حقيراً. كل ذلك يحدث في كل ناحية من نواحي الجزيرة العربية المترامية الأطراف، المختلفة في الظروف.
* حاضرنا في بعض ملامحه وسلوكياته بكل محتوياته يعد امتداداً لإرثنا الماضي بكل ما حمل. أبناؤنا اليوم إلا أقلهم يتخذون من المنزل مكاناً قصياً، ليقضي جل وقته مع نفسه مع عالمه الافتراضي الجديد، مع جهازه يستمتع بتلك الأهازيج، والترانيم، والأزجال (الشيلات) حتى ليداخلك الشك من خلال تفاعله أنه قد أصيب بشيء من المسّ. أهازيج بعضها مستمد من التراث، وبعضها من الحاضر، تفيض بالسخرية والنكتة أحياناً، ويمتلئ بعضها فخراً ومدحاً وغزلاً، تكون بالصوت والصورة التي يتفننون في منتجتها وإخراجها، ويمضون على ذلك الوقت الطويل، وليتهم مع هذا الانغماس تعلموا منها بعض مكارم الأخلاق، أو ارتقت ذائقتهم للإبداع الفني، شعراً، أو نثراً، أو اكتساب ملكة النقد. لا ملامة عليهم فتراثهم ينضح باهتمام قبيلة كبرى بأبيات من القصيد لن أضيع وقتكم باستعراضها. قبيلة ضاربة مكانياً في مساحات شاسعة من هذه الجزيرة في عصور خالية.
* للأسف نحن لم نقرأ التراث قراءة فاحصة ناقدة، نجلو فيه ما يتفق مع حياتنا المعاصرة وما لا يتفق، ما نحن بحاجة إليه، وما نحن لسنا بحاجة إليه، ما يجرنا إلى الخلف، وما يدفعنا إلى الأمام، ويفتح لنا آفاقاً جديدة في المستقبل، ما قد يكون سبباً في وحدتنا وقوتنا ويعزز مكانتنا بين الأمم والشعوب والحضارات، وبين ما هو خلاف ذلك. بل ربما أننا أصبحنا نتخوف من مجرد إثارة مثل هذه الموضوعات، لاعتبارات اجتماعية.
* لا أدري حقيقة، ما هي المساحة التي نستطيع أن نعمل فيها بشكل إيجابي مع هذا الجيل الذي انهزمت شخصية بعضهم، ونحن أمام هذا السيل العارم من القنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي اخترقت كل شيء في حياتنا وما كنا نعتقده يوماً من الأيام من خصوصيات الأسرة التي لا يحسن انتهاكها. قنوات تعمل على مدار الساعة، حتى وإن تبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، عمل كهذا طبيعي أن يغطى بالغث والسمين. وأعظم من هذا وذاك هي لغة الصمت والاستسلام عندنا.