د. محمد البشر
حملوا ما يستطيعون حمله، حملوه فوق ظهورهم، فليس لديهم طائرة أو سيارة، أو حتى دابة لتحمل الطفل والشيخ، وتلقفتهم مجاميع من السماسرة الذين أكدوا لهم قدرتهم على توفير قوارب تحط بهم في مناطق أكثر أمناً من بلدانهم، وصدقوا ذلك، وفعلوا، فغرق بعضهم ووصل بعضهم الآخر إلى شواطئ أخرى، يجهلون جغرافيتها، وطبوغرافيتها، وثقافتها، وحتى لون شجرها وحجرها، لكن الخيار المتاح، إما الموت أو الرحيل، مساكين هؤلاء الضعفاء.
جل الذين رحلوا، من بلدين عزيزين شقيقين العراق وسوريا، وأرض طاهرة سار على ترابها الرسل والأنبياء، ونبتت بذرة الحضارة الإنسانية على جبالها وسفوحها وهضابها ووديانها، ورسمت عبر التاريخ مجداً خالداً، ظلت ذاكرة التاريخ تحمله بين ثناياها، واحتضن باطن الأرض كثيراً من آثارها، واستطاع الإنسان كشف بعض منها، وبقي بعض تلك الكنوز قابعاً في أماكن مختلفة تحت طبقات التربة المتراكمة عبر آلاف السنين، وربما قد جللتها أديم أجساد عظماء كان لهم باع طويل في العناية بتلك البذرة، والحرص على نموها حتى أينعت حدائق غناء كحدائق بابل، ومجد تليد تم في أوقات متفاوتة. وآخر شواهد ذلك التاريخ المجيد حضارة إسلامية رعاها الأمويون في الشام، وانتشرت بفضل صدقها، وحقيقة أمرها إلى قلوب الكثير من شعوب العالم في الشرق والغرب، كما هي في شبه القارة الهندية، وماليزيا، وإندونيسيا، والصين، أو تلك التي وصلت الى شبه الجزيرة الأليبريه في الغرب.
أما العباسيون في العراق، فقد دانت لهم العلوم، كما دانت لهم القوافي، وصنعوا ونقلوا علوم الحضارات البائدة بعد ترجمتها وتصحيحها والإضافة عليها، فكان نتاج ذلك هذه الحضارة التي صنعها الغرب ويعيشها العالم أجمع.
لم يدر بخلد أحد أن أبناء صناع الحضارات والراعين لها، سيحملون أمتعتهم هاربين من جحيم أبناء جلدتهم، وليس بفعل غازٍ أجنبي كما هي حال المغول مع الحضارة الإسلامية، لقد شردتهم فئات غلب على أفئدتهم وعقولهم عنصرية عرقية، وتعصبات مذهبية، ولم يعد للعقل السليم دور في اتخاذ القرار القويم.
لقد هللت دول، وأماطت اللثام، فظهرت أنياب اللئام، ونخرت في العقول قبل الجسوم، واستطاعت استغلال المساكين والمغيبين، فكانوا وقود نار أضرموها، وحجارة أوقدوها، فأحرقت الأخضر واليابس. فيالها من مأساة سيذكرها التاريخ، بعد أن اكتوت بلظاها شعوب أبية مكلومة في منظر محزن تدمع له العين ماء، والأفئدة دماء.
استقبلتهم بلاد لا يعرفونها، وجعلوهم جماعات تم توزيعهم على حصص، لينالوا شيئاً من مبادئ العيش اليسير، والأمن من ظلم الصغير والكبير. ومع اختلاف الثقافات، بدت بعض التجاوزات، فرأت بعض البلاد أن يتم اتخاذ القرار تلو القرار، فتم أخذ قرار بترحيل بعضهم، كما أنه قد وافق البرلمان في دولة معينة بأن تتم مصادرة من يملك أكثر من ألف وخمسمائة دولار، أسوة بأبناء البلاد المعتمدين على المعونات الاجتماعية، واتخد قرار في دول أخرى بوجوب العودة فوراً وعدم البقاء لمن تم قبوله، وهناك دول قررت رحيلهم الفوري بعد انتهاء أزمة بلادهم، وعودة الأمور إلى ما يشبه السلام.
في طريقهم إلى تلك البلاد البعيدة، اختفى عشرة الآف صبي، لا أحد يعرف مكانهم، وعلى أي حال حالهم، وربما تم ابتياعهم، أو اختطافهم من قبل عصابات المتاجرين بالبشر، لتوظيفهم في الرذيلة وغيرها من صنوف الممارسات المخالفة للقيم والأخلاق والقانون، وإن كان قد سجل هذا الرقم بصفة رسمية، فإن من المؤكد أن أعداداً قد تفوق هذا العدد لم تسجل ولم تظهر في البيانات، لكنها اختفت والله أعلم بمصيرها.
سيعود جزء غير قليل من أولئك المظلومين إلى المجهول، فبلادهم لم تعد صالحة للحياة، وبراميل التدمير تنصب على الرؤوس، والبيوت، والقنابل تنهمر انهمار المطر في يوم مطير، وكأن صوت الطائرات رعد يجلجل، وبريق احتراق وقودها برق لا يتقطع، ولم يكن ذلك البرق برق الخلب، وهي السحب غير الممطرة، وإنما هي أمطار البراميل المدمرة، والقنابل المحرقة، وفي الجانب الآخر نجد جيوشاً تزحف، وبينها فئات لاهم لها إلا الانتقام ممن يعارض مذهباً، أو لا يوافق منهجاً، ومساحة أخرى تحتلها فئة تكفر العالم أجمع إلا من سار على دربها، وبايع قائدها، وآمن بمبادئها.
إلى أين بربكم سيحمل العائدون أمتعتهم، وإلى أي شغل النار سيرمون بأنفسهم، وهل أيضاً هناك من سبيل إلى عودة، وإن تم ذلك فلن يتم إلا بعد سلب كل ما لديهم، هذا إذا سلمت أعراض بناتهم.
هذا كله، والفاعلون والآمرون به، ما زالوا في قصورهم، يأمرون بأن ترمى البراميل، والغارقون في العنصرية والمذهبية ما زالوا يعيشون في رغد من العيش، ويدعون مناصرة المظلومين، وهم الظالمون.