د. جاسر الحربش
كلما كثر التحصيل المعرفي عند شخص ما ازدادت قناعته بأنه كان جاهلاً وأنه أيضاً ما زال لا يعرف إلا القليل وبحاجة إلى المزيد من المعرفة. هذا الكلام يبدو غير منسجم مع العقل، إِذْ كيف يصبح الأكثر معرفة أكثر إدراكاً لكونه ما يزال في دائرة الجهل، لكن هذه هي الحقيقة. هذا المستوى الإدراكي لقلة المعرفة هو المحفز الأكبر لتطور العلوم والمعارف عبر التاريخ البشري منذ بدايته حتى الآن، وعليه قامت رغبة الاستكشافات لما في الأرض والبحر والفضاء والأجرام السماوية. إن سلمنا بذلك، أي بضرورة الحصول أولاً على بعض المعرفة لمغادرة الجهل مع الطموح إلى معارف أكثر، هل ينطبق الاستنتاج عكسياً على الجهل؟. نعم ينطبق، وأشد أنواع الجهل إطباقاً على الإِنسان هو جهله بأنه جاهل لدرجة الاعتقاد بأن ما لديه يكفيه لبقية حياته وللأجيال التي ترث منه هذه القناعة من بعده.
لن أدخل في تفاصيل درجات وأنواع الجهل، مكتفياً بذلك المقدار الذي يعتقد صاحبه أنه يمتلك من المعرفة ما يكفي للحاضر والمستقبل وأنه لا داعي للبحث عن المزيد، وهذا يسمى الجهل المركب بخلاف الجهل البسيط الذي يعترف صاحبه بجهله. الجاهل المركب يشبه إلى حد كبير ذلك الكائن الليلي الذي نسميه الخفاش. الخفاش لديه من المعرفة الغريزية الموروثة ما يكفي للتعامل مع الظلام فقط، وعدوه الأول هو النور. لذلك ينام نهاراً في المغارات والكهوف ويستيقظ ليلاً ليخرج في طلب الرزق. بهذه الخصوصية لا تتواجد الخفافيش في ليالي المدن المضاءة بالكهرباء وأنوار السيارات، لكنها تتواجد بكثافة في ليالي القرى والتجمعات السكانية التي ما زالت تعيش على إمكانيات الماضي في التعامل مع النهار والليل. الخفافيش كائنات ليلية فقط، ولذلك تتخبط وتتصادم وتسقط على الأرض مذعورة عندما يدخل أحد المستكشفين مغارة مليئة بالخفافيش وبيده مصباح قوي يعمل بالبطارية الكهربائية التي صنعها عارف بأسرار الضوء والظلام.
وحيث إن التحليل المنهجي يفصل الجهل إلى درجات وأنواع، فهو قد فصل العلم كذلك إلى درجات وأنواع تتداخل وتتكامل مع بعضها البعض، مثلها مثل أنواع الجهل التي تتداخل وتتكامل بخصوصية التمازج بين المتشابهات في الطبائع.
أنواع العلم في التحليل المنهجي ثلاثة، العلوم الربانية المنقولة برحمة الخالق تعالى إلى البشر عن طريق الوحي المنزل على الأنبياء والرسل، ثم العلوم المادية التي ييسرها الخالق تعالى باستعمال العقل وحب الاستطلاع والتطبيق، والعلوم الماورائية (الميتافيزيقية) وهذه ليست علوماً برهانية وإنما تخيلات بشرية يقلص العلم دوائرها تدريجياً وبطرق متسارعة.
الإشكال المذكور في عنوان المقال، صعوبة إقناع الجاهل بجهله هو العقبة الأصعب في المزاوجة بين العلوم الربانية النازلة بالوحي الإلهي والمعارف المادية. هذا الوضع الاندماجي فقط هو ما يمكن الإِنسان من الاستقرار الروحي التعبدي وتحسين وضعه الأمني والمعيشي، بما في ذلك التحوط للظواهر الطبيعية المدمرة (القحط والفيضانات والعواصف والزلازل والبراكين والأوبئة) وكذلك التحوط لاحتمالات الاكتساح من الخارج بفعل مجتمعات سبقت إلى المزج بين العلم الرباني والمعارف المادية الدنيوية.
خلال القرون الخمسة الأخيرة من التاريخ البشري فقط تم التحقق العلمي والاستفادة من كروية الأرض ومن مدارات الأفلاك والنجوم ومن قوانين الجاذبية بين كتل المادة ومن نسبية الزمان والمكان بالتداخل مع سرعة الضوء ومن قوانين الضوء، مروراً بالعدسات والمجاهر اليدوية إلى سبر أغوار الكون بالتيليسكوبات الليزرية، ومن تحليل المادة إلى الجزيئات الأصغر المكونة للذرة نفسها، ومن الطاقة المختزنة داخل الذرة لتمنعها من التفتت وصولاً إلى تفجير هذه الذرة وإطلاق الطاقة المحبوسة بداخلها، لاستعمالها في الأغراض الطبية والاستكشافية والحربية.
في الأسبوع الماضي توصل العلماء الأمريكيون إلى فك سر علمي جديد يتعلق بماهية الجاذبية بين الأجسام، وأنها ليست كما كان يعتقده نيوتن وإنما ناتجة عن التغير الذي تحدثه الأجسام في ما كانوا يحسبونه فراغاً خاوياً، فأصبحوا يعتقدون أنه نسيج إلهي شامل من الزمان والمكان ويسمونه الزمكان.
هذه الاستشهادات بالاكتشافات المعرفية ليست هرطقة وتجديفاً ضد الدين وإنما نتائج متحققة باستعمال القدرات العقلية التي ركبها الله في البشر وأمرهم نصاً باستعمالها فيما ينفعهم وليزيد في إيمانهم في قدرات الخالق الأوحد العظيم. الهرطقة هي أن يحكم الجاهل المعتد بجهله على ما تحقق ويتحقق من علوم ومعارف وصناعات واستكشاف لأسرار الحياة كمجرد هلوسات لا فائدة منها.
ملاحظة ذات دلالة لذوي الألباب: اللغة العربية في عقر دارها تمت إزاحتها علمياً وطبياً ومعلوماتياً وتجارياً من قبل اللغة الإنجليزية. ألا يدل ذلك على بؤس الاحتكار الموروث لتعريف ما هو العلم وما هو الجهل.