د. جاسر الحربش
يبدو أننا مقبلون على صراع إقليمي وربما عالمي كبير، نحتاج فيه إلى الهدوء والسكينة ودفن أو تأجيل مزايداتنا الداخلية من كل نوع. من نتائج هذا الصراع أن تحسن رصيد المملكة الإعلامي كثيرا في العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك استثار -كما هو متوقع ومحسوب- الإعلام الأمريكي/الأوروبي/الروسي/الإيراني، لتشن حملات في منتهى الشراسة والتشكيك في المملكة ومقاصدها وتحالفاتها الدفاعية. لم يكن الإعلام الغربي والروسي والإيراني معتادا من قبل على مواقف مبدئية ومحسوبة من أهل المنطقة، مفترضا أن تفتت الجبهات العربية قد تغلغل بما يكفي إلى داخل كل دولة على حدة وأصبحت الفرائس جاهزة للتوزيع والاقتسام. كل ذلك، بظواهره الإيجابية (الإعلام العربي والإسلامي) والسلبية (الإعلام المضاد) متوقع، لكن الغير محسوب ولا متوقع تعكير وإزعاج الموقف الوطني الجمعي في مثل هذه الظروف العالمية الحرجة بتصرفات فئوية محلية غير مقبولة ولا مسوغة، إما تحت ذريعة الاحتساب الشرعي، أو بحجة التحذير من تيارات إسلامية مسيسة، لها أجنداتها الخاصة.
الدولة تعرف بالتأكيد كل مكوناتها الاجتماعية، وتعرف من يقدم مصلحة الوطن بقناعة وإخلاص، ومن يزايد ويثير البلبلة لأسبابه الإنمائية الخاصة، وتعرف أيضا متى يجب حسم الأمر ولكل حادث حديث. الذي تأمله الدولة كعنوان للمواطنة الصالحة خصوصا في الظروف الاستثنائية هو التزام الهدوء والتقيد بمتطلبات العقد الاجتماعي المحددة بوضوح في فصول وفقرات النظام الأساسي للحكم، وليست مطروحة للطموحات والاجتهادات الفئوية والمذهبية.
رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، تحت هذا العنوان تدار البلاد، وهو عنوان مفتوح من قمة الهرم على التكامل التكافلي وليس على المزايدات في ادعاءات الصلاح والأصالة والمحافظة على الهوية، ولا على المزايدات في ادعاء المواطنة الأفضل والولاء الأكمل.
أعود لعنوان المقال «وزارة لفك الاشتباك». اقتبست العنوان من وزارة السعادة التي استحدثتها شقيقتنا الوفية المتوثبة نحو المستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة، أسعدها الله دولة وشعبا وحكومة. نحن هنا في السعودية لسنا بحاجة لوزارة سعادة، على الأقل ليس بعد، بسبب الاختلاف الاجتماعي على تعريف السعادة، وهل هي سعادة الدنيا أم الآخرة، أم سعادة الاثنتين معا، لكن الحديث في ذلك مما توجب الظروف تأجيله، والمستقبل مبشر إن شاء الله. السؤال المتوقع بعد قراءة العنوان هو: أي اشتباك؟ إنه بالتأكيد ليس الاشتباك مع أعداء الخارج فهؤلاء معروفون، ولأول مرة يحصل الاشتباك معهم بالطرق الواضحة والمطلوبة بشروط الوطن والعروبة والإسلام. الاشتباك الذي نحتاج إلى وزارة للتعامل معه هو التلاسن والمزايدات الداخلية حول الأخلاق وخوارم المواطنة والدين والمروءة، حول ما هو صلاح أو فساد وما يجب أن يؤخذ به أو يترك، وحول حدود حريات الفرد ذكرا أو أنثى، المكفولة له نظاما وتشريعا داخل المجموعة، وحدود صلاحية المجموعة للتدخل في حالة جنوح الفرد داخل نفس النظام والتشريع، بدون اجتهادات فئوية أو شخصية. مهم جدا أن تعرف الأطراف المتشابكة أنها تتخاصم حول مستقبل الوطن في وقت غير مناسب.
القارئ يعرف ما هي التيارات التي تثير الزوابع في هذه الظروف الحرجة، ولذلك لا داعي للتسميات. القارئ يعرف أيضا أن هناك تحريض متبادل وتشويه سمعة مستهدف وتربص، وأن هناك دس وافتراء وتنافس على كسب الأغلبية الصامتة من الجماهير بطريقة تتنافى مع الاحتكام للعقل والإخلاص لثوابت التعايش النظامية، في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى الظهور أمام العالم كتلة واحدة متراصة لا وجود للثغرات بين مكوناتها. من خلال الثغرات فقط حين توجد يستطيع المتربص التسلل إلى الداخل.
العوار الأول في الاشتباك الحاصل هو ادعاء كل طرف أحقيته في تعريف المواطنة الصحيحة وأسبقيته في الوطن، بناء على تزكية النفس ونبز الآخر دونما بينة لا لهذا ولا على ذاك، بل مجرد مزايدات فئوية وصلت إلى استباحة الكذب والتدليس وتسميم التعايش الاجتماعي.
العوار الثاني هو أن كل طرف لا يقبل الاحتكام إلا للجهة الحكومية التي يعتقد أنها تنصفه، فلا وزارة الإعلام المخولة بالنظر في الرأي المكتوب أو المنطوق ترضي الطرفين، ولا القاضي يرضيهما، بسبب التوجس من التعاطف المؤسساتي بناء على انطباعات من اشتباكات سابقة.
من أجل وطن للجميع وما دامت ظروفنا الاجتماعية لا تتطلب وزارة جديدة للسعادة، ما رأيكم في المطالبة بوزارة جديدة لتقريب وجهات النظر وفك الاشتباك، إلى أن تخضع كل الأطراف لشروط المصلحة الشاملة لكل المكونات الوطنية.