يتحفنا الباحث د. عبد الرحمن الشبيلي بين فينة وأخرى بحزمة رصد، مناسبة لمجرى الأحوال والأحداث، تاركاً لمن يقرأ ويتابع ويعتبر، ومضات لامعة غنية، ومعلومات دقيقة رصينة، يستلها من مخزون رصده، الذي لا يأتي صدفةً بل يجيء عصارة خبرة ومراس محقق، يستنزف الجهد ويبذل الوقت في بحثٍ وتقصٍ، وهو في كل ذاك لا يبالغ في معالجته، ولا يماري في كتاباته، ولا يرائي ليكسب أو ينافح من أجل منصب، ملمّ بتاريخ الجزيرة وطناً وأرضاً وبشراً، تتجلى في إطروحات مواضيعه عقلية منفتحة، متقبّلة للنقد والتصويب، طالبة الاستزادة، راغبة بالإفادة لمن يريد المشاركة، وليست مانعة لها.
جاءت محاضرته الأخيرة في جامعة بيشة (مُدركات المعرفة عند الملك سلمان) مناسبة لذكرى العام الأول لتوليه مسؤولية مقاليد الحكم، جرد فيها الملامح المعرفية والتكوين الفكري لشخصية سلمان بن عبد العزيز، بلغت في تعدادها عشرة أبعاد لا خلاف عليها.
من ناحيتي، أن أخصص منها - بعد إذنه - البعد السابع الذي يتناول فيه التواصل بين رجل الدولة والمثقفين والمتابعة الدؤوبة لما يكتب في الصحافة المحلية والعربية، وهي ميزة لا يشاركه فيها إلا من ندر، وهي ما تثير استغراب المراقب، عن إمكانية اتساع الوقت لتلك القراءات، مع كثرة مشاغل الدين والدنيا ملقاةً بثقلها على عاتقه.
يعلمنا التراث عن محمد بن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهم ) حينما سُئل : ماهو العلم الذي ثبت به عن العالم ؟ فقال : « إذا أخذت كتاباً جعلته مزرعة».
من هذا المنطلق، جاءت مشاركتي التي هي شهادة، لتجارب مرّ على وقوعها مايزيد على عقدين من الزمن، وتحديداً في 2 فبراير 1994م حينما نُشرت دراسة امتدت على حلقتين حول بروز النجديين ونشاطهم خارج الحدود بعنوان « الزبير خاصرة نجد» خصصت الحلقة الثانية منها عن عبد اللطيف باشا المنديل عنوانها «سياسي محنّك وإداري بامتياز» يبحث جزء منها في علاقته مع الملك عبد العزيز ودوره في تأسيس المملكة العربية السعودية،
ثم أردفته بعد ما يقارب خمسة أعوام ببحث أخر عن مناسبة مئوية التأسيس ( 18 فبراير 1999م ) عنوانه «الملك عبد العزيز آل سعود وعشر سنوات في الكويت، مقتطفات من منهج شبابه، وقصة زواجه الأول».
إن ما جاء فيه، وإن وردت بعض الإشارات في عدد من المراجع القديمة نسبياً، إلا أنه الأكثر شمولاً للتفاصيل، ولم يسبق ظهوره في موقع واحد قبلاً، أما تلك المراجع فكان أولها في كتاب» ابن سعود سياسته وحروبه ومطامعه» لمصطفى الحفناوي القاهرة 1924م.
ثم جاء بعده كتاب «البلاد العربية السعودية لفؤاد حمزة 1936م» وكان الأكثر تفاصيلاً ولكنه لم يذكر اسم الزوجة أو عائلتها، ولكن فيلبي في كتابه»الذكرى العربية Arabian Jubilee» الصادر في لندن عام 1952 ذكرها مرتين باسم عائلتها»بنت الفكري» وبدون تفاصيل، لينقلها عنه كتاب Burk›s Royal Families of the World, Vol. 11 Page 207 London 1980م.
لم أسمع أو أقرأ بعد ذلك من جديد، حتى صدور العدد الأول للسنة السابعة والعشرين لمجلة «الدارة» التي يرأسها الأمير سلمان ( حينها ) بنفسه عام 1422هـ -2001 م أي بعد مرور سبعة أعوام من بحث وتقصٍ، تحت عنوان «زوجة الملك عبدالعزيز الأولى» ذاكراً الاسم والعائلة والقبيلة التي تنتمي لها.
وهنا ينطبق عليه، ويظهر جلياً ما نوه إليه د. الشبيلي عن « المتابعة والتقصي لكل شاردة أو ورادة من « الأمير القارئ والمثقف والمؤرخ « للمبادرة بالسعي لإكمال ما نقص.
فلا جرم في ذلك قولي إنه أول تماس ثقافي لي بالملك، وأنا لا أدعي هنا عن علاقة أو مراسلة أو معرفة شخصية سابقة، وإن كانت لي زمالة ومعرفة منذ أيام الدراسة بالستينات من القرن الميلادي المنصرم مع بعض أبناء الملك المؤسس وأحفاده.
أما العلاقة الأسرية، فهي تاريخية قديمة الأواصر، ارتكزت على آثار، تغور جذوره وشواهده هو من جهتين لأسرتي، ولا أريد أن أستطرد في ذلك، ففي كتب التاريخ أدلة على ذلك، وهي ابواب مشرّعة، يمكن الولوج خلالها لمن يريد التقصي.
أما المناسبة الثالثة، فكانت نتيجة كتاب مثير للجدل عن سيرة الشيخ مبارك الصباح، يحمل نقائضه اعتساف واختلال، نشرت «جريدة الراي» الكويتية حلقاته على امتداد شهر ديسمبر 2007 م على إثره جاء رد الأمير سلمان 13 يناير 2008 م حول تلك الأخطاء والمغالطات، وكنت حينذاك في مرحلة إعداد رد على ذلك الكتاب، ولأسباب مقاربة عنونته «آفة الراي الهوى» ولكن رد الأمير جاء سريعًا مثيراً ضجة، جعلت الجريدة بين إذعان وتردد من نشر ما كتبت.
ولم أقف عند ذلك، بل أضفت إزاء المداخلات التي جاءت في رد الأمير، لاحظت منها ثمة كيل بمعيارين مختلفين، وكشفت ما استغلق وبعثتها لعنايته، فجاء رده الشخصي لي بعد فترة وجيزة لاستفساراتي وجوابه على النقاط العشر، التي أثرتها حول ما يتعلق بخصوصية أحداث تأثرت بتداعبيات 17مايو 1896م ( 25 ذي القعدة 1313هـ) في الكويت، وما تبعها بين قطبي الخلاف كما جاء تفصيلها في كتاب (المستودع والمستحضر في أسباب النزاع بين مبارك الصباح ويوسف الإبراهيم، دراسة اكاديمية مجازة من جامعة الملك سعود عام 2006 م) فكان الرد عباباً في كتاب، إذا وعظ نفذ إلى السرائر، مبصراً لخفايا تاريخية تستدل من سطوره أن شخصية كاتبه لا تطفئ حقاً ولا تشعل باطلاً، بل قول مستقل، فهو من الخصب في نصب، مولع بكل خلق كريم، كقول الإمام الشافعي «من علم التاريخ زاد عقله ».
وليس هو - كما يصور - ممن يوحشهم الحق ويؤنسهم الباطل، أرباب أبواق حملات الجهل والتضليل، ذوي الباع الطويل في اختلاق القصص والابتعاد عن الحقائق، الوالغين في إثم الخصومة، تحريضاً وهجوماً وتشكيكاً، سيعرفون الرابح غداً والأكثر حشداً.
فلما رأوا ما قد رأته شهوده
تنادوا إلى هذا الجواد المؤمّل
ولا فض الله فاه «دائم السيف» حينما قال في «تحزّموا»:
ياهْل القلم والشّان ردّوا التّهايم
عدوانكم استأجروا كل كذّاب
وحطّوا مراكز بحث للشّور دايم
استثمروا في عقول قاده وكتّاب
والله المستعان.
يعقوب يوسف الإبراهيم - باحث كويتي