د. عيد بن مسعود الجهني
حال أمتنا العربية اليوم يذهل كل ذي عقل وكل صاحب لب بقدر ما يدهشه تقدم الغرب والشرق في العلوم والتكنولوجيا وفي الوحدة والاتحاد، بينما في ديارنا العربية فإن نظرة سريعة اليوم تبرز عمق الصراعات الفوارة كالبركان في العراق وليبيا واليمن والصومال وبلاد الشام التي تغلي كالمرجل حيث أصبح الصراع الدولي يبث سمومه في معظم الدول العربية.
الصراع على أرض بلاد الشام يعيدنا إلى ذاكرة تشكيل عالم ما بعد الحرب الباردة التي ألقت بظلالها على المجتمع الدولي منذ خمسينيات القرن المنصرم حتى سقوط جدار برلين 1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق ومعظم الدول التي كانت تسير في فلكه.
تلك الحرب الباردة التي أطلت على العالم ثم غابت شمسها مع بزوغ شمس تسعينيات القرن المنصرم، قرن النفط والأحداث الكبرى لتصبح الولايات المتحدة الأمريكية قطبا وحيدا يدير دفة أمور العالم من البيت الأبيض، تلك التسعينيات التي شهدت حدثا جللا، احتلال العراق لجارته دولة الكويت ليخرج من رحم ذلك الاحتلال البغيض تحالف دولي قادته المملكة العربية السعودية كانت نتيجته الحتمية هبوب عاصفة الصحراء لتتحرر الكويت بقرار سعودي تاريخي.
بقي العالم ساكنا إلى حد كبير بعد أن شمت الكويت رائحة الحرية حتى تفجرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لينتفض الغول الأمريكي ليرد على ذلك الحدث الإرهابي الشنيع باحتلال أفغانستان 2002 ثم العراق 2003 ليمثل ذلك الاحتلال هزة عنيفة في المنظومة الدولية وفي صناعة النفط لتبلغ أسعاره الثريا قبل أن تعود إلى التراجع أحيانا ثم الارتفاع أحيانا أخرى، وهي تحوم اليوم عند مستوى30 دولارا للبرميل.
واليوم تدور لعبة الأمم على أرض العرب بلاد الرافدين وبلاد الشام، إيران الفارسية تضمر الشر للعرب بدون تفريق، تطمع في الأرض والنفوذ جهارا نهارا بتحالف مع روسيا التي عادت لتدخل في لعبة صراعات المنطقة من البوابة السورية بحثا عن النفوذ الدولي الذي فقدته مع سقوط الإمبراطورية السوفيتية (السابقة).
الروس يعرفون المنطقة وإستراتيجيتها وأسرارها ففي عصر إمبراطوريتهم (البائد) كانت علاقتهم ذات قوة مع مصر من خلال صفقات سلاح ودعم معنوي في حروب إسرائيل التي شنت غدرا على أرض الكنانة، وهاهم الروس اليوم يضربون الشعب السوري بالصواريخ والطائرات المدمرة، وكل الأسلحة الفتاكة مع إيران والعراق وحزب الله لضمان النفوذ والقواعد في طرطوس واللاذقية، فتعاون الجميع على ذبح السوريين، والمنظر الكئيب في كل المدن والقرى السورية وفي حلب الشهباء يبرز غل وحقد حلف روسيا وملالي طهران وأعوانهم الذين جاءوا من بعيد من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان حيث حزب الشيطان، ليسجل التاريخ حربا شعواء يشنها خوارج وحشاشو هذا الزمان على أهل السنة والجماعة.
على الجانب الآخر، إدارة الرئيس الأمريكي أوباما مواقفها تجاه الحالة السورية غير مستقرة بل يسودها الارتباك الشديد حتى أصبحت سياستها الخارجية تجاه هذا البلد المنكوب وكأنها تريد أن تترك الدب الروسي يغرق في أرض الشام، كما فعلت معه في أفغانستان، لكن الفارق كبير في الزمن والجغرافيا و (جيوبوليتك) المنطقة والتوازنات الدولية رغم أن بوتن يواجه في بلاده مشاكل (فوارة) اقتصادية فأسعار البترول المنخفضة أنهكت اقتصاده وأردت عملته قتيلا، بينما كل المؤشرات الاقتصادية تقول إن أمريكا لا تزال صاحبة القوة الاقتصادية والسطوة العسكرية.
وإذا كانت روسيا ومعها إيران، العراق، سوريا تتزعم البحث عن النفوذ على أرض الشام في ظل التردد الأمريكي المخيب للآمال، فإن إسرائيل تعيش أفراحا وليالي ملاحا، فالصراع الوجودي مع الدولة العبرية اليوم مؤجل إلى حين، بل إن إيران التي طالما (صرخ) قادتها بتدمير اسرائيل وسوريا التي هي دولة الممانعة (الكاذبة) أصبحا يديران لإسرائيل بالوكالة معاركها، فالعراق دُمر وسوريا دمرت والفاعل قادة إيران وسوريا وبوتن الذي طالما رفع صوته عاليا معلنا أنه مع العرب وضد إسرائيل، فأصبح الجميع مع إسرائيل وأمريكا في احتلال أرض العرب، وبالطبع في المقدمة القدس الشريف وفلسطين التي ابتلعتها الدولة اليهودية ولم يتبق من تلك الأرض العربية سوى 18في المئة.
أما العرب الأخيار اليوم فهم أكثر ضعفا وانكسارا وتشتتا، أصبحوا يراقبون لعبة الأمم على أرضهم.. الحرب الباردة تفوح رائحتها تزكم الأنوف من على تلك الأرض الطيبة المباركة.. يتصارع الجميع على أرض العراق وسوريا حتى أن قادة العراق بعد أن شاهدوا (قوة) روسيا تضرب أهل الشام وتدمر البلاد والعباد، استدعوا النفوذ الروسي ليحل على أرضهم، وكأنهم يخططون للانعتاق من دائرة النفوذ الأمريكي إلى القبضة الروسية التي بالطبع تنال مباركة إيرانية.
ومن يقرأ التاريخ السياسي لبلاد العرب ويدقق النظر في حلف (روسيا، إيران، بغداد، دمشق) يتذكر حلف بغداد القديم وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن في تشكيلة جديدة ودوائر نفوذ جديدة مزدحمة على أرض العراق وسوريا؛ فأصحاب النفوذ الدولي والمتنافسون ازدحموا على تلك الأرض العربية التي كانت بالأمس القريب ذات (قوة) أوقفت الزحف الفارسي إلى أرض العراق مثلا بقوتها العسكرية وكان لها أهميتها الإقليمية في الأمن القومي العربي.
اليوم أصبحت ميدانا خصبا لصراعات داخلية ودولية مفتوحة الأبواب للنفوذ الإيراني والروسي يراقبه الغول الأمريكي يتقدم خطوة تارة ويتأخر خطوة تارة أخرى ليقرر كيف ومتى وأين ينقض على (الفريسة)، كما فعل خلال حروبه الطويلة في الحربين الكونيتين وغيرها من الحروب، لا يخوضها إلا إذا تأكد بالفوز (بالغنيمة) إذا استثنينا حالة هزيمته الشنيعة في (فيتنام).
وأمام هذه الأحداث الجسام والمتغيرات سريعة التطور والنزاعات والحروب الكارثية تبقى قضية الأمن القومي الذي يعني في أهم مفاهيمه (القوة) والقوة تتجلى في هذا المضمون كحركة تاريخية، عميقة الجذور، متنامية مستمرة ترتبط في جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وكل دولة في المنظومة الدولية من أهم أهدافها بلوغ ناصية القوة لتحمي سيادتها وأمنها القومي الذي يعد الشغل الشاغل للأمم والدول على مر العصور والأزمان.
الدول العربية سكانها كسروا حاجز (300) مليون إنسان وميزانية جيوشها تقدر بأكثر من (100) مليار دولار وعدد جنودها حوالي (3) ملايين جندي، ورغم ذلك فإنهم (العرب) بعد الكوارث العظام في سوريا والعراق وليبيا والصومال ولبنان واليمن لم يشكلوا (قوة) كبرى، رغم تلك الأرقام الفلكية وعدد الجيوش التي تحول بعضها إلى درك كما في العراق وفي سوريا لذبح الشعب السوري، وليس اليمن سوى نموذج هو الآخر بعد تدخلات ملالي طهران لدعم الحوثيين وعلي صالح ضد الحكومة الشرعية المنتخبة.
وتبرز لنا هنا أهمية (القوة) السعودية التي أكدت عبر السنين قدرتها على توفير أكبر قدر من الحماية والاستقرار للدولة وسيادتها وحمايتها ومواطنيها من التهديدات الداخلية والخارجية، بل قدرتها على حماية ودعم أشقائها العرب في مصر في كل حروبها ضد إسرائيل 1956، 1967، وحروب الإستنزاف وحرب 1973، ووقوفها بصلابة ضد العدوان العراقي على الكويت 1990 وتبنيها بقرار تاريخي لتحرير الكويت الشقيقة.
وهو نفس الموقف (القوي) من اليمن وأهله ضد الحوثيين وعلي صالح وطهران، (فالقوة) السعودية وقفت وتقف مع الحق ضد الظلم ومع الخير ضد الباطل لتصنع تاريخا عظيما في واقع الأمن القومي العربي ومفهومه الواسع.
إذا في عصرنا هذا وقبله هدف سياسة أية دولة تتمحور في المحافظة على قوة سياستها.. والسياسة تقاس بمدى نجاحها أو فشلها في المحافظة على (القوة) ضد الضعف والضعف منكور، فالضعيف ذليل محتقر، حقه مسلوب وكرامته مهانة، لا تسمع له كلمة ولا تصان له كرامة، خاصة في هذا الزمان فإن بعض من يملكون القوة لا أخلاق لهم ولا يردعهم عن استخدامها ضد الضعفاء دين ولا مثل ولا إنسانية.
وإن المثل حي أمامنا قيصر روسيا ومعه ملالي طهران وطاغية سوريا وشيعة باكستان والعراق اجتمعوا وعقدوا العزم على تدمير بلاد الشام وقتل وتشريد أهلها جماعات وأفرادا، وما نراه في كارثة حلب الإنسانية ما هو إلا دليل على طغيان القوة المعراة الروسية وتخاذل المجتمع الدولي جهارا نهارا.. في أسلوب جديد لتقاسم النفوذ وتبادل الأدوار.. في لعبة الأمم الجديدة، واجتماع ميونخ رغم الاتفاق على وقف لإطلاق النار خلال أسبوع وإدخال المساعدات للمحاصرين، إلا أن الغزاة الفرس وشيعتهم والروس وأتباعهم لن يتوقفوا عن أعمالهم الإجرامية ضد أهل الشام مستمرين في لعبتهم الدولية.. وتبقى حاضرة الدولة الأموية وشعبها السوري البطل خنجرا في خاصرة الطغاة حتى يسقط النظام النصيري الشيعي طال الزمن أو قصر. والله ولي التوفيق