د. محمد بن عويض الفايدي
تضع منطلقات التحضر التي تعيشها المجتمعات النامية تصورًا مشتركًا للتحديات الوظيفية والمهنية المتمثلة في تباين مستوى التأهيل والإعداد والتدريب ومتطلبات شغول الوظائف، وضعف تحفيز الطاقات البشرية واستثارة دوافعهم ورفع روحهم المعنوية، وغياب القيادة النوعية التي ترفع الكفاءة الانتاجية وتُحقق الأهداف بدرجة عالية من الجودة والكفاءة. في حين أن الأنشطة الوظيفية محوراً هاماً وبعداً أساساً تقوم عليه مختلف الأعمال الخدمية والإنتاجية في كافة قطاعات المجتمع الخاصة منها والعامة.
التزام الحد الأدنى من المبادئ التي تُشكل منهجيات جوهرية تأخذ بمعطيات التقنية الحديثة ومنطلقات التحضر المجتمعي، وتبتكر وسائل إبداعية تتخطي المعوقات المهنية والوظيفية، وتستثمر الفرص ضمن نموذج وظيفي شامل يواكب التحولات التقنية ويؤسس لقواعد وظيفية يتحمل فيها المتخصصون الفنيون والتقنيون مسؤولية لا يمكن تجاوزها في ظل تعاظم هذا الدور على منحنى إدارة الكفاءات.
يُشكل الطلب على الوظيفة مطلبًا فرديًا وهاجسًا أُسريًا وتحديًا مجتمعيًا في ظل زيادة الطلب على التوظيف لتزايد أعداد خريجي مؤسسات التعليم المختلفة في الداخل، وترى كمية العائدين من الابتعاث الخارجي الذين اصطدموا بسوق عمل مصمت أحادي الاتجاه يتنازع فيه القطاع الحكومي والقطاع الخاص مسؤولية إخفاقاته في عدم استيعاب الذكور والإناث الباحثين عن عمل، وهامشية دور الهيئات الوسيطة بين القطاعين، وغياب دور مؤسسات المجتمع المدني التي تتبنى كفالة الحقوق المهنية، والدفاع الموضوعي عن فئات المهن والحرف المختلفة في المجتمع.
تُعد الإرادة الوطنية الجادة من القيادة السياسية أبرز المرتكزات للدفع بمنظومة التحول الوطني المتكاملة السائرة نحو إيجاد بيئة حقيقة محفزة للتحول الوظيفي الذي من أولويات دعائمه الشراكة والتكامل الفعلي بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص بمنهجيات وبرامج وهياكل متناغمة ومنسجمة للاستيعاب الوظيفي مع فرص العمل الملائمة لمختلف مجالات التأهيل والإعداد والتدريب للقوى البشرية الوطنية، وفي مقدمة ذلك التشريع الهيكلي، وبناء القدرات الوطنية المستندة إلى أنجح التجارب الدولية لتبني تحولا مهنيا متكاملا يستند إلى قانون شامل يضبط إيقاع السوق الاقتصادي ينطلق من الاستثمار في الوقت المتغير الجوهري لتصحيح المسار والتحول الحقيقي من الاستهلاك إلى الإنتاج بتغيير الصورة النمطية عن المواطن السعودي من كونه مستهلكا إلى كونه منتجا. وأول خطوات هذا التحول إرساء مواعيد عمل للقطاع التجاري عامة بساعات عمل محددة يمكن أن تنحصر بين الساعة 9 صباحًا إلى الساعة 6 مساء، مع إجازة نهاية أسبوع لمدة يوم ونصف على الأقل، والسير قدمًا باتجاه المقاربة في الأمان الوظيفي بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص في شروط التوظيف والرواتب والحوافز المادية والمعنوية والإجازات الأسبوعية والسنوية وساعات العمل، وتحديث السياسات والبرامج والآليات وتطويرها طبقاً لمتطلبات المرحلة، وسن مزيد من التشريعات والأنظمة التي تدعم هذا التوجه وتحل تشابكاته، ومعالجة الاختلال المهني خاصة فيما يتعلق بنظام الأجور والحوافز، والضمانات المهنية، والتأمين، والتمييز المهني، ومقاومة التستر والفساد الإداري والمالي والاقتصادي بكل أنواعها وأساليبها ووسائلها، والغاء كافة الشروط التعجيزية لشغل الوظائف المفروضة على الخرجين المتمثلة في شهادة الخبرة، وإجادة اللغة الإنجليزية، والإلمام ببرامج متقدمة في الحاسب الألي. في حين أن الوافد يأتي لا يفقه كثيرًا مما يُطلب على المواطن الخريج من متطلبات للتوظيف، ويتعلم الوافد ويكتسب الخبرة من إمكاناتنا الوطنية وأجهزتنا وتقنياتنا ومنجزاتنا الحضارية، وأبرز ما يعكس ويدلل على ذلك السائقون الذين يشاهد الجميع مستوى قيادتهم في الطريق العام وتعلمهم مهارة القيادة من المكتسبات الوطنية والخسائر البشرية والمادية التي تُخلفها ضريبة اكتسابهم للمهارات من منجزات التنمية التي جوهرها الإنسان السعودي. يتكئ الاقتصاد السعودي على قاعدة اقتصادية متينةقدرات تنافسية عالية تحمل فرص واعدة لاستيعاب جل القوى البشرية الراغبة في العمل. بينما يعاني رأس المال البشري الوطني من البطالة التي تعاني منها الدول النامية، ولا تخلُ منها الدول المتقدمة كذلك. ذلك لأن سوق العمل في القطاع الخاص يفتقر إلى الهياكل التنظيمية التي تُوصف الوظائف وتحدد مهامها بشكل دقيق، وإلى النموذج التدريبي الملائم لتصميم البرامج التدريبية التي تتدرج في رفع المهارات وإكساب الخبرات، وهو مرتكز معضلة التوظيف في عدم التوافق بين متطلبات الوظائف والفرص الوظيفية الشاغرة وتأهيل وتدريب الكوادر الجديدة الراغبة في العمل. والذي يعكسه أن نحو(11) مليون وافدًا يشغلون فرص وظيفية وطنية منها نحو (50%) جاذبة للمواطن قد لا يطالها لاختلاف متطلبات التوظيف عن التأهيل والإعداد والتدريب وعدم انطباق الشروط والمعايير التي غالبًا ما تصاغ بما ينطبق على الوفد ولا ينطبق على المواطن.
تأتي الاستراتيجية السعودية للتوظيف ضمن روافد معالجة البطالة في المملكة للتعامل مع قضايا القوى البشرية الحرجة، والطلب المتنامي على التوظيف من الذكور والإناث. ومنذ عام (1433هـ) طبقت وزارة العمل البرنامج التحفيزي لتوطين الوظائف «نطاقات»، من خلال الشركات والمؤسسات المختلفة، والذي لا يبدو أنه يلائم المرحلة الحالية على الإطلاق لقصوره ومحدوديته ذات النطاق الضيق بالمفهوم المحفز للاستثمار والاقتصادي التنافسي. وفي مطلع عام 1437هـ تم إنشاء هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة التي يُنتظر منها محاكاة برنامج التحول الوطني بأبعاده الاستراتيجية والاقتصادية والتنموية لخلق بيئة وطنية مستنبتة للوظائف التي تتفق مع تأهيل وإعداد وتدريب المواطن. وإذا ما تم ذلك فإن الجهود التنموية الوطنية ستسير في نسق الطموحات نحو معالجة مشكلة البطالة المتنامية، ولكن بعيدًا عن سلوك وزارة العمل الذي انتهج منحنى مغلفا باستيعاب هش من القطاع الخاص للبطالة يأخذ في معطاه التشغيل الصوري الذي يجلب إتمام الإجراءات والاستفادة من مصادر التمويل والدعم الحكومي للموارد البشرية دون التشغيل الفعلي المحقق للتدريب ورفع الكفاءة الإنتاجية للقوى البشرية الوطنية العاملة بما يمكنها من المنافسة محلياً وإقليمياً ودوليا. وهنا إذا ما تخطت هيئة توليد الوظائف هذه المعضلة وتبنت الأجدى ستلامس مشكلة التوظيف الجوهرية، وستكشف عن قطاعات ومجالات لديها القدرة على توظيف أكبر نسبة من الباحثين عن عمل.
تشوهات هياكل الدعم جعلت معظم منظمات القطاع الخاص تستأثر بالدعم الحكومي، وتستفيد من صناديق الدعم والإقراض المختلفة، مع أن معظمها لا يملك المواطن شيئا من أسهمها، وفي الغالب تصدر القرارات لصالحها. والذي بدوره يُكرس تشوهات اقتصادية ومالية تزيد من حجم البطالة في المجتمع. في حين أن واقع المجتمع وتطلعاته تتجه نحو الشفافية والمقاربة الاجتماعية والاقتصادية التي تعمل على تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، إذ أن النمو الاقتصادي الإيجابي الذي يشهده الاقتصاد الوطني، ورواج التجارة، وتنامي الأسواق يعود بالدرجة الأولى إلى الأمان والاستقرار الذي تنعم به المملكة وهو المعطى الجوهري في تحفيز الاستثمار السعودي.
يعتمد النمو الاقتصادي المتجدد اعتماداً كلياً على استثمار رأس المال البشري، وبقدر استغلال هذا المورد وتمكينه واستخراج طاقاته لتحفيز برامج التنمية تتسع أو تقترب فجوة شغل الوظائف في سوق العمل السعودي، وذلك بحسب إسهام القطاع الخاص في تمكين القوى البشرية الراغبة في العمل من الجنسين وخاصة الإناث، الذي لا زال دوره لم يرق إلى المستوى المأمول الذي يحفز هذه الطاقات للإسهام بدور أكثر فاعلية في التشغيل الكامل لعنصر العمل.
عقدة العار الاجتماعي، ومرادفها كلمة «عيب» لا «يناسب» «ليس من المقام» التي لا زالت راسخة في الثقافة المجتمعية تجاه النظر إلى الوظيفة والعمل المهني والحرفي خاصة، والتي يعكسها التحاق الفئة الأقل حظا بالتعليم المهني وممارسة الأعمال المهنية والحرفية. إضافة إلى التصنيف المجتمعي للمهن والحرف والرفض المجتمعي لتصنيفاتها الدنيا كل ذلك يشير إلى الاتجاهات السلبية نحو مهنية الوظيفية وخضوع الموظف لمتطلبات وظروف وشروط الوظيفة مرهون بالنظرة الاجتماعية الدونية للمهنة، والقيمة المعنوية المقدرة للوظيفة، وهو أحد مظاهر التخلف المتمثلة في تعطيل عنصر العمل أهم عناصر الإنتاج.
ترتكز أهمية الوعي المهني لمعالجة تشوهات عنصر العمل على فهم الظروف والشروط التي تُشكل الاتجاهات وتبني الإيرادات، والدور المجتمعي المتخطي لمورثات ورواسب الماضي السلبية نحو العمل المهني والحرفي، وتبني اتجاهات إيجابية جديدة نحو الأعمال المهنية والحرفية من خلال برامج تثقيف وتوجيه ممنهجة تُعد بعناية وبجهود مشتركة من القطاع الحكومي والخاص والهيئات المختصة ومؤسسات المجتمع المدني لتنمية وبناء الممارسات الإيجابية بداية لدى الأطفال والشباب ذكورا وإناثا بوسائل مبسطة تزيل رواسب الماضي وتُشجع على ممارسة المهن والحرف، وتنشر ثقافة العمل المهني والحرفي انطلاقًا من برامج توعوية شاملة عبر مؤسسات التعليم والتثقيف منها على سبيل المثال ما يوجه إلى الصغار «كالمستثمر الصغير»، و»الحرفي الناشئ»، وتوسيع وتعميم نماذج مهنية تحاكي كافة الفئات العمرية عبر مراحل التعليم المختلفة وفي المناسبات الوطنية، وجعل مثل هذه البرامج ثقافة مرادفة للتحفيز على التعليم والتعلم في مشروعات وطنية عملاقة وشاملة يتحقق من خلالها الإفصاح عن الذات، والعلاقات الحميمة وديناميكية الجماعة، وثقافة التقدير والأمان العاطفي، والمعرفة والتعرف وتعزيز السمات السلوكية الإيجابية، وتعميم مبدأ القبول والاحترام والمعاملة بالمثل والإصرار على الاهتمام. وتوجيه التفاعلات المقترنة بتصرفات سلبية مبنية على النقد والتحقير والحيل النفسية واحتكار الكلام والشك السلبي إلى اتجاهات أكثر إيجابية تستند إلى التقدير وقبول المسؤولية والتهدئة الذاتية والشك الإيجابي.
إن إعادة هيكلة التعليم في الجامعات والكليات والمعاهد، وحتى في دور الرعاية الاجتماعية والمؤسسات العقابية محطة هامة في توجيه البوصلة نحو بداية تشكيل ملامح المجتمع المنتج بتلبية حاجات النمط الاستهلاكي محلياً بجعل الأولوية لتعليم المهن والحرف النشطة المتعلقة بصناعة الأغذية، وتجارة التجزئة، والحلي والمجوهرات، والملابس التقليدية والعصرية، كمنطلق أولي تتبعه منطلقات أخرى عاجلة لتمكين الشباب من الجنسين من السوق المحلي الذي سيطر عليه الوافد الذي استحوذ على مفاصل الاقتصاد الوطني السهلة والأكثر عائداً مالياً، والذي يمكن أن يُقدر بمئات المليارات التي تخرج في شكل حوالات مالية وسلع، قد تعود إلينا في شكل إجرام منظم داعم لمنظمات الإرهاب والأفكار المنحرفة التي تسعى لزعزعة الاستقرار الوطني.
يُعد التعاون بين القطاعين العام والخاص وبين المجتمعين العلمي والتقني في مجال أنشطة البحث العلمي، والتطوير التقني خيارا إستراتيجيا للمنافسة ومواجهة التحديات وخلق فرص وظيفية وبيئة عمل ملائمة يمكن أن تستوعب الخريجين الجدد وتراكمات البطالة السابقة التي يئس جلهم وانكفى حتى عن التفكير في البحث عن فرص عمل مجددًا، وهؤلاء يشكلون مخاطر ظاهرة ومستترة على أمان واستقرار المجتمع إذا ما تم استيعابهم ضمن برنامج التحول الوظيفي الذي قد يكون أحد المتغيرات الجوهرية في الوقاية من آفة التنمية خطر الانحراف والتطرف والإرهاب.
يُسهم تعميم التعليم بجودة عالية في تجويد كفايات التنمية الوطنية التي تعاني اختلالات تتصل بسوق العمل وجاهزيته لاستقبال القوى العاملة الوطنية التي حصلت على قسط من الإعداد والتدريب لاستيعاب أكبر نسبة من البطالة التي قد تتزايد في الخمس سنوات القادمة إذا لم يتم تبني إرادة وطنية جادة للتوظيف تراعي حجم الخريجين الجدد والرصيد السابق من البطالة، مع الأخذ في الاعتبار التشغيل الحقيقي وليس الصوري الذي تبنته وزارة العمل وهو في حقيقته يُعد بطالة مستترة قد تضاعف نسبة وحجم البطالة الحقيقي مالم تكن المراجعة هيكلية وقطاعية تراعي كافة المتغيرات بما فيها الفرص والتحديات الوظيفية الحقيقية.
يُساعد تجويد التعليم الجامعي خاصة الفني والمهني وتمكينه لمختلف فئات المجتمع على حد سواء دون تمييز، وتوسيع خيارات الجنسين وتأهيل وتدريب وتمكين المرأة، من خلال مناهج التعليم وبرامج التأهيل والتدريب، واستخدام «نظم الحوافز والمعونات الفنية» في معالجة الفجوة في الفكر والسلوك الوظيفي المهيمن على عامة الناس بالأمن الوظيفي الحكومي دون القطاع الخاص، وهذه المعضلة الأجدر بالتذليل والإزاحة من الأذهان، وذلك بتشجيع مبادرات القطاع الخاص في هذه المجالات، والاستثمار الفعال في القطاع الصناعي وتمكينه من قيادة القطاعات الانتاجية والخدمية الأخرى لجعلها أكثر قدرة تنافسية وقيمة مضافة لمواكبة التطور السريع في تقنية الانتاج والخدمات، وكذلك الاستثمار في الخبرات التراكمية الناجحة في بعض المجالات النشطة التي تتكرر في مواسم الحج والعمرة والزيارة والسياحة، والمتمثلة في المهنية العالية لتوفير الحماية والسلامة لكافة المجالات الحيوية بما فيها مصادر الطاقة. إضافة إلى الخبرة الثرية في مجال سلامة وحماية المنشآت النفطية التي تُعد مجالاً ملائماً للاستثمار والمنافسة المجدية، لتحقيق الأهداف التنموية لمشروع التحول الوطني الرامي لإحداث نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني جاذبة للاستثمار ومستوعبة لقوى العمل الوطنية بالتمكين والمشاركة الفاعلة.
يبدو أن تهيئ برنامج التحول الوطني إلى الانطلاق له أن يتزامن معه إطلاق برنامج وطني شامل يؤرشف سجلات جميع أصحاب الخبرة والتجربة والتدريب والتأهيل العلمي العالي في مركز وطني موحد تحت مظلة هيئة الإحصاءات العامة، والتأسيس لمشروع وطني متكامل يتبنى نقل الخبرة والتجربة والإثراء المعرفي بين الأجيال، بتفعيل دور ذوي الخبرة والتجربة بوصفهم يشكلون مورداً فكرياً ومهنياً قابل إلى الانتقال إلى جيل الشباب والشابات عن طريق إتاحة التجربة والخبرة والمبادئ والقيم الوظيفية والمهنية الي الجيل الجديد لتحقيق مفهوم التراكمية والتضامن والترابط فيما بين الأجيال باعتبارهم متغيرا تتابعيا وجوهريا في مسيرة التنمية الوطنية الشاملة والمستدامة.