د. محمد بن عويض الفايدي
التخطيط الاستراتيجي يستهدف كل الظروف المستقرة وعند التقلبات والأزمات معطى على المخطط أن يضعه في مقدمة الأولويات عند التفكير بداية في وضع الرؤى والتصورات قبل الشروع في التأمل بالاستراتيجيات، والإعداد للخطط وجمع البيانات والمعلومات حولها.
التخطيط في ظل الاستقرار والأمان يُمكن المخطط ويمنحه مساحة أوسع لاستكمال عناصره وتكامل مقوماته. ولكن قد تعترض المجتمع أزمات تهدد كيانه وتؤثر على استقراره وأمانه وتعيق برامج التنمية التي تتكون من حلقات متداخلة ومتشابكة تتقاطع وتتمحور في بعض الأحيان يمكن أن يؤدي هذا التداخل لتنامى الأزمة التي غالبًا ما تنبثق عنها أزمات أخرى قد تكون أكثر تعقيدًا وتأثيرًا على أهداف وبرامج التنمية.
تتركز معظم الأزمات غالبًا في دول العالم الثالث، وتتشكل في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والبيئي والجيوسياسي والتوزيعي. فالصراع بين الفقراء والأثرياء، والتعامل مع الممتلكات العامة باعتبارها ممتلكات شخصية، وضعف الانتماء والولاء للوطن والصراع المجتمعي، وتدني المشاركة والإقصاء، وتفشى العنف والتطرف والانحراف والإرهاب كل هذه الأزمات وغيرها تهدد التنمية وتقوض الاستقرار.
هامشية دور مراكز البحوث والدراسات بدول العالم الثالث في رصد المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والسياسية والنفسية والسلوكية التي تُعد متغيرًا جوهريًا في الأزمة ومرتكزًا محوريًا لإحداث التنمية، زاد من صعوبة مواجهة وخفض مخاطر الأزمة والنتائج السلبية المصاحبة لها والناجمة عنها.
تتيح الأزمات الوقوف على الكثير من الأوضاع التي تحتاج للمراجعة والتصحيح، والواقع يحمل الكثير من التحديات التي تُشكل مصدر إزعاج للناس، وفي هذا السياق تجدر الإشارة لجوانب محدودة من مصادر قلق وانزعاج الناس عدا هاجس الأمان والاستقرار، ويتطلعون إلى معالجتها بشكل جاد يبدد الاستسلام الذي ترسخ في النفوس بأنه لا سبيل إلى الخلاص من تلك التحديات، وبالتالي التسليم بواقعها وقبولها دون مناهضة، وهنا يأتي دور المخطط في الأزمات الذي عليه قياس هذا المستوى من اليأس والاستسلام والوقوف على دوافعه وخلفيته انطلاقًا من قيم المجتمع الأخذة في الانكسار نتيجة لهذه التراكمات السلبية واليأس العام، والشعور بالاستغلال والابتزاز في التعاملات الاقتصادية وتبادل السلع والخدمات، وفقدان الثقة بقدرة الإدارة على ضبط إيقاع مستوى الخدمات والأسعار، وشيوع الإحساس العام بتنامي الفساد الذي ضاعف من عدم الموثوقية في رغبة الأجهزة المعنية في الرقابة على السلع والخدمات تطوير أساليب الأداء بسن التشريعات والقوانين والنظم وتنفيذها بصرامة لضمان جودة الخدمة وعدالة الأسعار وتحقق الكفاءة الإنتاجية.
تؤسس الاختناقات التي تتعاظم أثناء الأزمات إلى اهمية اختيار القادة الأكفاء لضمان عنصري القوة والأمانة: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26) سورة القصص. ويبدو ان توفير القادة المؤهلين، وتحسين بيئة القيادة المنطلق الرئيس لتخطي الأزمات بمكاسب أو خفض المخاطر أو تقليل الخسائر، فضلاً عن الخروج منها بمكاسب.
الخطة المتدحرجة التي تتكيف مع الظروف والمواقف وتستوعب الشروط المفروضة والمتغيرات الطارئة، تُشكل البعد الاستراتيجي للتنبؤ بالأزمات وتهيئة القيادات القادرة على استيعابها والتفاعل معها. وفي هذا السياق يأتي الدور الجوهري لمراكز البحوث والدراسات وحاضنات التفكير التي تصوغ الرؤى وترسم التصورات وتتوقع المخاطر والتحديات وتضع الاحتمالات وتتنبأ باتجاهات الأحداث والمواقف وتغير التوجهات والظروف والشروط.
يظل الاستعداد والتهيؤ والجاهزية وحشد الإمكانات البشرية والمادية والتقنية والتأهيل والتدريب والمواكبة بالخطط والتخطيط والتطوير المستمر حجر الزاوية لتخطي الأزمات واستثمارها في النهوض بالمجتمعات وتحقيق مفهوم الريادة في تطويرها وتحديثها، فالأزمة تصنع النجاح لمن يحسن قيادتها واستثمارها.
مهارة إدارة الصراع وتحويل مسار الأزمات وإعادة انتاجها بحسابات المكسب المكسب الذي يتيح مساحة أوسع للمناورة بتعظيم الفرص الإيجابية وتفادي الاختناقات الحرجة، وفهم منهجية الخصوم، وتعديل المسار باستمرار، ورفع مستوى الوعي ودرجة الانسجام والتلاحم والاندماج المجتمعي والانتماء والولاء التي ينصرف جميعها نحو الاستقرار والأمان المكون الكلي للتنمية في عموم مجالاتها.
تحديات المجتمعات النامية هي أنها تكاد إذا واجهت أزمة أضحت تواجه أزمات التنمية كلها في وقت واحد، في حين أن العالم المتقدم غالبا إذا ما واجه أزمة فأنه يوجه الأزمات ويستوعبها على التوالي، وعلى هذا ترتيب مواجهة الأزمات غالبا ما يبلور أساليب التصدي في نسق موحد ومتناغم مع اتجاهات وتطورات الأزمة.
توحيد قيادة الأزمة في مركز قيادي موحد يتولى صياغة كافة إجراءات وخطوات المعالجة والمواجهة يُعد جوهر استراتيجية التصدي للأزمات في بعدها الداخلي والخارجي. إضافة إلى الدور المحوري في جمع البيانات والمعلومات والمواد وتصنيفها ودراستها وتحليلها وتفسيرها وإيجاد علاقات بين متغيراتها المتسقة والمتناقضة وتوظيف النتائج بمنهج تكاملي يأخذ بكل المعطيات وبمختلف الظروف والشروط، ويرصد الأنباء ويقدمها للمختصين لتحليلها وتقيمها وإعادة انتاجها في قوالب إعلامية تحاكي اتجاهات وتطورات الأزمة، ونشر الملائم منها عبر برامج تتابعية ووفق سياسة إعلامية وطنية موحدة يلعب فيها المتحدث الإعلامي الرسمي دورًا فاعلاً - إذا ما تم اختياره بعناية - التأثير المباشر وغير المباشر في مراحل نمو وتطور الأزمة بين مختلف اطياف المجتمع، وتوجيه الفريق الاعلامي لقياس مدى التأثير الذي تتركه الأنباء على كافة الفئات المجتمعية.
تناقضات قد تنشأ أثناء إدارة الأزمة بين مجال القانون ومجال العلاقات العامة. إذ يميل مستشارون الشؤون القانونية إلى الامتناع عن إعطاء أي تعليقات لتفادي الاستغلال السلبي لما ينشر وتقليل نطاق الدعوى القضائية وخفض التبرير عن مجريات أحداث الأزمة، في حين تتجه رغبة مختصي العلاقات العامة إلى العلانية والصراحة ونشر بعض الحقائق لطمأنة الرأي العام وقياس ردود الفعل المجتمعي. ويبدو أن تطور الأحداث يُعد حاكمًا للطرفين جهة القانون والعلاقات العامة فعندئذٍ هؤلاء وأولئك يسوّغون ويبرهنون على أساليبهم معتمدين على ما يحدث في عملية تطور الأحداث.
وهنا يأتي دور الاعلام الواعي والمتمرس في انتقاء وعرض الملائم من المشاهد والبرامج المصممة بمهارة لمعالجة الأزمة وتوجيه الرأي العام بمختلف أطيافه وشرائحه نحو الغاية التي ينشدها فريق قيادة الأزمة بما يحقق هدفا مزدوجا يراعي متطلبات هيئة القانون من جهة وتطلعات فريق العلاقات العامة من جهة أخرى.
الولاء والانتماء والمواطنة متغير في الأزمة وجزء منها، ويُعد التلاحم المجتمعي وتوحيد الصف والاتجاه، ورفض كل ما يدعو للفرقة والتشرذم حزام الأمان الواقي من الانزلاق في الخلاف والانقسام ووحل الفتنة التي تُبدد المقدرات وتسحق المنجزات والموارد وتُعمق الفجوة بين مكونات وأطياف وفئات المجتمع.
تبذل الوزرات السيادية المتمثلة في وزارة الداخلية والدفاع والخارجية جهود دؤوبة لتوفير خدمة الأمن والاستقرار والأمان وتأمين الحدود وحراسة اقتصاد ومنجزات الأمة، وتحشد الإمكانات والطاقات لمواجهة التحديات الداخلية ذات الصلة بالإجرام والإرهاب والانحراف والتطرف، والتحديات الخارجية المرتبطة بالأطماع والتربص، وسوء علاقة بعض دول الجوار، وغموض مواقف الحلفاء الإستراتيجيين، وتنكر كثير من الأصدقاء لجميل الصنيع والمعروف، وتعاظم خطر الإرهاب الدولي، وخروج بعض العناصر على ولاء المواطنة وتسخيرها من تنظيمات الإرهاب والاجرام لزعزعة أمن واستقرار الوطن، وتعاظم حراك الصرعات الاقليمية العسكرية، وتراجع مواقف بعض دول المنظومة الخليجية عن التأييد والدعم المأمول، وزيادة الضغوط الاقتصادية التي تستنزف الموارد المالية في ظل تراجع أسعار النفط وزيادة متطلبات التسليح والتقنية.
فرصة التغيير قد تأتي في ثنايا الأزمة فالنقلة النوعية في الاقتصاد والسياسة والتعليم والصحة والأمن والحماية والخدمات والترفيه والتوظيف والفكر والثقافة والإعلام يمكن أن تنطلق من رحم التحديات والأزمات.
تحديث الاقتصاد الكلي على المستوى الوطني بشمولية لكافة قطاعات ومرافق الاقتصاد يُشكل مرتكز الانطلاقة نحو العالم المتقدم بوعي مجتمعي وتضامن مؤسسي وجهد فردي تكاملي.
تحديث النظم وتطوير الإجراءات والتشريعات وتحسين الخدمات ووسائل تقديمها وتحفيز الاقتصاد مرتكز لتقييم واقع واتجاهات الأزمة التي غالبًا ما يتطلع الناس إلى التنبه لحاجتهم ومتطلباتهم بين ثنايا الأزمة.
وتجدر الإشارة لنماذج محدودة يقاس عليها جوانب أخرى فقد يؤثر على الهوية والانتماء والولاء والمواطنة الشعور بالغبن والابتزاز فحين تتصاعد الأسعار وتتجاوز الحد المقبول وتتباين في الزمان والمكان لحاجات ضرورية تتصل بصحة ومعيشة وحياة الناس كخدمة طبية أو تقنية أو اقتصادية تتصل بصيانة السيارات والأجهزة المنزلية والأثاث والملابس والمواد التموينية يثير الاستغراب، وينعكس ذلك على الرضا المجتمعي ومستوى الثقة في الأجهزة الحكومية والهيئات الوسيطة بين القطاعين العام والخاص وقدرتها على متابعة وضبط الأسعار وجودة السلع والخدمات، وفي الوقت نفسه قدرة الجهاز الحكومي والهيئات الوسيطة على تلبية تطلعات الناس، والذي يُعد المقياس الحقيقي للولاء والرضا والانتماء والموثوقية بالحكومة في وقت الأزمات، والتي عليها أن لا يكون دورها استجابة للتحديث والتغيير فحسب بل يكون سبب التحديث والتغيير والتطوير.
يبدو أن دور الوزارات المعنية بالثقافة والاعلام والاقتصاد والتخطيط والصحة والتجارة والصناعة والبلدية والقروية والعمل أضحى حتميًا في مشاطرة الوزرات السيادية في تبني تدعيم الوضع الداخلي والمساهمة في رفع مستوى الرضا والولاء والانتماء والمواطنة بالتوسع في الوقوف على التجارب الإقليمية والدولية وتقييمها واقتباس الأفضل والأكثر جودة، ومن ثم التطبيق العاجل لقواعد تصميم وتحديث وتطوير الأنشطة والخدمات وضبط الأسعار ومستوى الجودة، واختيار الوسائل الفعالة للتقييم والمتابعة والتقويم، وفرض عقوبات رادعة للمخالفات والتجاوزات تنفذ بصرامة.
تجنب الآثار السلبية للأزمات وضمان الأمان والاستقرار والتوازن الاقتصادي والرضا المجتمعي، يتطلب تضافر جهود مثل هذه الوزرات لمعاضدة الوزارات السيادية بتزامن وتناسق يقابلها حركة سريعة في الكشف عن حاجات ومتطلبات وآمال الإنسان السعودي في كل منطقة ومحافظة ومركز، الذي لم يزل دور مراكز البحوث والتفكير محدودًا في تحديد مصادر قلقه وعدم رضاه والعمل على معالجتها، وفي غياب هذا التناسق قد تطغى مسالب الأزمة ما لم تتحد وتتوحد الجهود وتُلتمس الحلول من كافة فئات وأطياف وشرائح المجتمع من خلال عقد ورش لقاءت تجمع المفكرين والمثقفين والنخب والخبراء والمختصين والشباب من الجنسين في عصف ذهني جماعي يستجيب لإفرازات الأزمة وحاجات المجتمع الضرورية والجوهرية.