د. محمد عبدالله العوين
كتبت مقالاً قبل أشهر قليلة فائتة عن الكلف الشديد من قبل مخططي المناهج في جامعاتنا بتخصصات لم يعد لها جدوى كبيرة في مجتمعنا كما كان ذلك قبل خمسة عقود على سبيل المثال.
إن الإمعان في افتتاح مزيد من الأقسام الأدبية وما يشبهها من التخصصات النظرية التي تخرج طلابا لا يجدون لهم فرص عمل بيسر وبدون عنت أو طول انتظار لا يعني سوى عزلة الجامعات عن مجتمعاتها، أو التمسك بالموروث من العلوم والخوف من التخلي عن بعضها؛ خشية أن يؤثر عدم الاحتفاء بكثير من العلوم النظرية في انتماء الأجيال الجديدة إلى الأصالة كما يعتقد بعض مخططي المناهج، أو يضعف تواصلهم مع المعارف الأدبية واللغوية والتاريخية وما ماثلها من العلوم الإنسانية.
وهذه الدعوة التي ألح على التفكير الجاد في أسبابها التي عزلت أو حرمت كثيرين من أجيالنا من فرص الحياة العملية الجادة المثمرة، وقعدت بهم عن الإسهام في نهضة الوطن وتقدم الأمة؛ لا تعني التخلي عن الموروث من المعارف الأدبية والإنسانية العربية والإسلامية البتة؛ بل تعني النظر المتأمل البصير في جدوى إبقاء كثير من تلك التخصصات في الدراسات الجامعية وما بعدها في مرحلتي الماجستير والدكتوراه دون أن تضيف قيمة حقيقية أو ابتكاراً أو رؤية متقدمة تصلح خطلا أو قصورا في معايش الناس ومصالحهم وصحتهم وتقدمهم، وربما أغنى القليل من تلك التخصصات وسد حاجة المجتمع عن الكثير الفائض منها الذي يصبح -أحياناً- عبئا على المجتمع؛ بما يمكن أن نسميه «بطالة أصحاب الشهادات العليا» وقد أصبحت الآن حديث كثير من وسائل الإعلام؛ فنحن نقرأ بين فينة وأخرى عنوانات صحفية تقول: أصحاب شهادات دكتوراه لا وظائف لهم!
وللحق؛ قد لا يكون الخلل في عدم الحاجة للتخصص بقدر ما يكمن في سوء التخطيط للوظائف أو وجود ثغرات خلل أو فساد إداري في بعض الجهات الحكومية التي تتعاقد مع أصحاب شهادات عليا؛ بينما يوجد من يسد مكانهم من أبناء البلاد من الحاصلين على الماجستير والدكتوراه!
ونضرب مثلاً على ضعف تأثير كثيرين من الدارسين والباحثين في التخصصات الأدبية والإنسانية النظرية بعامة ما نشهده من تزايد عدد الحاصلين على شهادات الدكتوراه من جامعات ليس لها تاريخ علمي حافل بالإنجاز والتجديد، أو في قضايا ساذجة سطحية عديمة الجدوى والفائدة لا تخلو من فجاجة وتفاهة، ولو سمحت لي مساحة هذا المقال لكنت ضربت المثل بعناوين لرسائل علمية لن يملك أي قارئ لهذه السطور إلا الضحك ليس من عدم جدية الباحث أو قلة نباهته أو انحدار تفكيره أو تسرعه ولهاثه في سبيل الحصول على درجة علمية ليس مهيأ لها؛ بل من قسم علمي لا يقل أعضاؤه في الغالب عن أربعين أكاديميا يجيزون بحث قضية تافهة لا تضيف للوطن ولا للأمة جديدا ولا تقدم حلولا لمعضلة تحول دون تقدم الوطن ونهضته أو سلامة المجتمع مما يعيقه في أي جانب من الجوانب الصحية أو الصناعية أو العمرانية وغيرها.
تتسامح أقسام أدبية في قبول رسائل علمية في قضايا شعرية أو نصية في العصور الماضية السحيقة؛ ليس بعنوان واسع كبير؛ بل في تخصص دقيق جداً في حياة شاعر أو ناثر أو تحقيق جزء من كتاب تراثي قد لا يكون له كبير خطر أو عظيم تأثير في مسيرة الأدب أو الفكر في تراثنا العربي؛ فليس كل كتاب موروث مضى عليه خمسة قرون أو أكثر بالضرورة يمثل إضافة معرفية حقيقية تستحق الاحتفاء والدرس والتحقيق.
وخلاصة القول: أدعو إلى تقليص التخصصات النظرية؛ بحيث تكون بمقدار الحاجة، والتركيز على التخصصات العلمية التطبيقية التي يحتاج لها الوطن؛ كالطب والهندسة بأنواعها المختلفة، والعمران، والزراعة، والأسلحة، والصناعات على اختلاف أنواعها وعلوم الفضاء والطيران والنانو وغيرها.
كم من حامل شهادة علمية في العلوم النظرية لا صلة له بمجتمعه، ولا يقدم لوطنه رؤية ولا فكرا ولا يسهم بأية وسيلة من وسائل التعبير في نهضة وطنه بما حصله من علوم ومعارف في تخصصه!
ومما يؤسف له أن عددا ليس بالقليل ممن سعوا إلى نيل شهادات الدكتوراه كان الدافع الرئيس لهم البحث عن مكانة اجتماعية أو وظيفية، متناسين التبعات الأخلاقية والوطنية والإنسانية التي لا بد أن يحتمل النهوض بها من طرق بابا من أبواب العلم وحصل فيه على شهادة عالية.