العربية لغة جميلة بديعة، بل هي لغة الجمال والبيان، طالما تغنى بها الشعراء، وهام بحبها الأدباء والنقاد، وتحدث عنها اللغويون واللسانيون. ولله در أمير الشعراء شوقي إذ يقول:
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِناً
جَعَلَ الجَمالَ وَسرَّهُ في الضادِ
وهي لغة تضرب في أعماق التاريخ أصالةً، إذ تمتد أصولها إلى ما يزيد على العشرين قرنا، وهي لغة ولود تنمو بالاشتقاق، وتحيا بالتصريف، ويتسع صدرها لقبول التعريب.
والعربية لغة العلم والمعرفة، فكم كتبت فيها علوم، وكم سطرت فيها فنون، وكم تربعت على عرش الحضارة والثقافة والمعرفة.
وكما استطاعت العربية أن تعبر عن أرقِّ خَلَجَات الشعور، فهي قادرة على التعبير عن أدقِّ مصطلحاتِ العلوم.
أما تعبيرها عن أرقَّ خَلَجَات الشعور فهو أمر يعرفه كل من قرأ آداب العرب، وتذوق شعرهم، وتغنى بمآثرهم، وتتبع خطبهم، وأمثالهم، وأخبارهم، واطلع على تراثهم. وإذا أردت دليلا على ذلك فدونك بيان الجاحظ، وأغاني الأصبهاني، وكامل المبرد، وأمالي القالي... ودونك المعلقات بجزالتها وإحكامها وإبداعها وأفانينها... بل دونك المتنبي بحكمته وعزَّته.. وأبا تمام بتفننه وروعته..والبحتري برقته وسلاسته..وأبا العلاء بفلسفته وعبقريته.. وغيرهم وغيرهم كثير.
وقد عبر القدماء عن هذا كله بالبيان، وعرفه الجاحظ -وهو أمير البيان- بقوله:
«والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل».
والحق أنَّ لبيان العربية أثرًا لا يدانيه أثر، إنه سحر عجيب.. يرفع ويخفض.. يجرح ويأسو.. يصنع الأعاجيب...
ألم يأتِكَ نبأ القوم الذين كانوا يعيـَّرون باسمٍ غلب عليهم وعُرفوا به، وهو (أنف الناقة) فجعل منه الحطيئة شرفًا لا يدانيه شرف، حين قال في حقهم:
قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ
ومن يسوّي بأنفِ الناقةِ الذنبا
على حين نزل جرير بآخرين إلى درْك ما دونه درْك حين قال في حق شاعرهم:
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ
فَلا كَعباً بَلَغتَ وَلا كِلابا
إنه البيان الذي جعله المولى عز وجل على رأس آلائه التي امتن بها على خلقه من الإنس والجن، وقرنه بنعمة الخلق حيث قال: {الرَّحْمَانُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}
وحسبك به من نعمة توصل إلى نعم ٍكثيرة، وهل يدرك القرآن إلا بالبيان؟ أو يوصل إلى الإيمان إلا بالبيان؟ أو يحمد الرحمن إلا بالبيان؟
بل هل يتواصل الإنسان إلا بالبيان؟ أو يعبر عن أرق مشاعره وأحاسيسه إلا بالبيان؟.
إن البيان إذا ما رضي أرضى الناس جميعا وداخَلَ الضمائر والقلوب:
إذا ما صافحَ الأسماعَ يوماً
تبسَّمَتِ الضَّمائرُ والقلوبُ
وإذا ما غضب أو سخط أسخط كل من يسمعه وخلّف جرحا لا يندمل:
جراحاتُ السِّنانِ لها التئامٌ
ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ
إنه الكلام الذي يمتزج بأجزاء النفس لطافةً.. وبالهواء رقةً.. وبالماء عذوبةً.. إذا ما سمعتَه فكأنَّ السحر يدِبّ في جسدك.
ولا غرو فقد وصفه بذلك أفصح من نطق به، وهو رسولنا المعظم- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إن من البيان لسحرا».
وأما تعبيرها -أي العربية- عن أدقَّ مصطلحات العلوم فهذا أمر يعرفه كل من درس تاريخ العلوم عند العرب، ووقف على أفانين تصانيف ابن سينا وابن النفيس والزهراوي في الطب، وجابر بن حيان والرازي والجلدكي في الكيمياء، والبيروني في الفيزياء، والخوارزمي في الجبر، والكَرَجي والطوسي في الرياضيات، وابن الهيثم في الضوء، والغزالي وابن رشد في النفس والفلسفة، وابن الشاطر في الفلك، وابن خلدون في الاجتماع، وابن ماجد في البحار، والفارابي في الموسيقا، وموسى بن شاكر وأولاده في علم الحيل (هندسة الميكانيك)، وابن جني في علم اللغة والصوتيات، والكندي وابن دنينير وابن الدريهم في علم التعمية واستخراج المعمَّى (الشِّفرة وكسر الشِّفرة). وابن وَحشيَّة النَّبَطي وذي النون المصري في الكشف عن رموز اللغة الهيروغليفية وغيرها من اللغات القديمة البائدة.
ولعل قائلًا يقول: ما لنا وللتاريخ؟ دعونا من التغني بالماضي، وتعالوا معنا إلى الواقع الحاضر، نحن في عصر التطور فأين العربية من التطور؟ ونحن في عصر الحاسوب فأين العربية من الحاسوب؟
والجواب عن هذا ذو شعبتين:
الأولى تلك التجربة الناجحة التي خاضتها وما تزال تخوضها -باقتدار- الجامعات السورية بتعريب التعليم فيها على اختلاف الاختصاصات إذ يعلم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء.. وغيرها من العلوم والفنون بالعربية، ويتلقى الطلبة علومهم بلغتهم الأم فلا ينشغلون عن تحصيل العلم بفك رموز اللغة، ويوفرون مشقة فهم اللغة ليبذلوها في فهم المادة العلمية وإدراكها إدراكاً حقيقياً يؤهلهم للإبداع فيها والتجديد والابتكار في حقولها المختلفة.
وقد كتب الكثير عن هذه التجربة العظيمة وحفلت بذكرها والتنويه بها المؤتمرات والندوات والمجلات والمؤلفات، وحسبي أن أشير هنا -على عجل- إلى واحد منها، وهو كتاب: «في سبيل العربية» الماتع، للأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، الذي جمع فأوعى، ولا تزال تتردد في ذهني تلك المقولة التي نقلها فيه عن أديب العربية الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات:
«هذا العلم الذي يسخّر السماوات والأرض لهذا الإنسان الضعيف، ويذلّل القطعان الملايين للراعي الفرد، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى مِلْكنا بالتعريب، ونعممه في شعبنا بالنشر، ولا يمكن أن يصلنا به أو يدنينا منه كثرة المدارس ولا وفرة الطلاب، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة».
والثانية تجربة متواضعة -ولكنها غنية ثرية- خضتها بنفسي على امتداد عشرين عاماً في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق حيث سنَّى الله لي أن أنخرط في فريق عمل متكامل ضم أناسا من اختصاصاتٍ شتى في العربية والرياضيات والحاسوب والإلكترونيات. كان من أولى مهامه معالجة اللغة العربية بالحاسوب، وقد آتى العمل أكله على خير وجه بحمد الله إذ أنجزنا عدة مشاريع علمية في هذا المجال، أهمها: النظام الصرفي العربي بالحاسوب، ونظام تحويل الكلام المكتوب إلى مقروء، وقواعد تعليم العربية بالحاسوب، وهي ترمي إلى أهداف عظيمة وغايات بعيدة، على رأسها الترجمة الآلية من العربية وإليها، واكتشاف الأخطاء اللغوية في النصوص وتصحيحها، وتعرف الكلام وتركيبه، والقراءة الآلية للنصوص المكتوبة، والكتابة الآلية للنصوص المنطوقة، والتحاور مع الآلة باللغة الطبيعية، والفهرسة الآلية للنصوص، وضغط النصوص واسترجاعها، وشكل النصوص غير المشكولة أو المشكولة جزئيا... وغير ذلك.
وبعد.. فهل يُعتصَر البحر بقطرة؟! أو يُختصَر الجبل بصخرة؟! أو يُجتزأ الروض بزهرة؟!
كل هذا لا يكون ! فالعربية أعظم من أن يحيط بوصفها لسان، أو أن يعبر عن جمالها وأسرارها بيان... حسبها شرفا أنها كانت لغة القرآن، البيان الإلهي الذي قال فيه الرحمن جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
د. محمد حسان الطيان - خبير لغوي في الألكسو - عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق