الحاسوب، بلا شك، هو أحد قمم الإنجاز الباهر لالتقاء العلوم والتقنيات، وقد استطاع الحاسوب أن يتعالق مع علوم أخرى، ليُسرِّعَ من حركة تطورها، ويُعزز مناهجها العلميّة ووسائلها العملية، ويفتح آفاقاً جديدة للبحث العلمي الدقيق. ونتج عن تعالق الحاسوب مع اللغة علم من أحدث فروع اللسانيات، وأهمها في عصرنا الحاضر، وهو فرع اللغويات الحاسوبية. فهو علمٌ بينيٌّ ينتمي نصفه إلى اللغة الطبيعية، ونصفه الآخر إلى الحاسوب.
وتتضح أهمية معالجة اللغة العربية آلياً في التطبيقات المتعددة المتوقعة منها، كتعلّم اللغة العربية وتعليمها للناطقين بها أو بغيرها، والترجمة الآلية، وتصحيح أخطاء الكتابة، وتعرّف الكلام الطبيعي، وقراءة النصوص وكتابتها آلياً، وغيرها من التطبيقات.
واللغة مظهر من مظاهر حضارات الأمم؛ لذا كان من الطبيعي أنْ تحظى برعاية علمائها وعنايتهم للحفاظ عليها والارتقاء بها، والعربية من اللغات التي نالت عناية واهتماماً من أبنائها؛ والحق أن العربية تتميز بجملة من الخصائص تجعلها قابلة للمعالجة الحاسوبية.
والغرض من هذه المقالة هو الوقوف على قضيّة مهمة من قضايا حوسبة اللغة العربية، وهي مَيْكَنَةُ توليد الأفعال في اللغة العربية وتصريفها، وذلك تيسيراً لتعليمها للناطقين بغيرها. وللصرف أهمية كبيرة بالنسبة لنظام اللغة العربية ككل، كما أن لمعالجته آلياً أثراً حيوياً في جميع الأمور المتعلقة بتناول اللغة العربية حاسوبياً، ويحتل تصريف الفعل مكان الصدارة في علم الصرف العربي؛ لذا كان من الضروري أن يتقن متعلم اللغة العربية تصريفه واستخدامه.
وقد ظهر الحاسوب في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، وبدأت صلته باللغات الطبيعية تتوثَّق، وذلك لسبب أساسي وبسيط؛ ذلك أنَّ اللغة تجسيد للنشاط الذهني للإنسان، في حين أنَّ الحاسوب صُنِعَ ليُحاكي بعض وظائف البشر، وقدراته الذهنية، ومنها اللغة في مستوياتها المختلفة.
إنَّ حاجتنا لاستخدام الحاسوب ستمكننا من تحويل نصوص اللغات الطبيعية إلى خوارزميات رقمية؛ وذلك بهدف تحقيق الوصول إلى نتائج سريعة في البحث عن المعلومات، تمهيدا لمدِّ جسور لغوية وتقنية بين الحاسوب واللغات الطبيعية.
والأمر الذي يتفق عليه المتخصصون هو أن تصريف الفعل في لغتنا العربية يمثل صعوبة من صعوبات تعلمها وتعليمها للناطقين بغيرها، إذا حُلَّت تكون العربية قد حَلَّت جانباً كبيراً من جوانب صعوبتها. ويكمن منشأ هذه الصعوبة في الكثرة الهائلة لحالات تصريف الفعل العربي، بسبب تعدد أبوابه في الثلاثي، وتعدد أوزانه في غيره، وبسبب تنوع أحوال الأفعال من حيث الحروف التي تتكون منها (السلامة والهمز والتضعيف والإعلال بأنواعه كافة)؛ مما يؤدي إلى أعباء إضافية في رد الفرع إلى الأصل والعكس، مع كثرة الضمائر التي يُصرَّف معها الفعل.
ويمكننا -مثلا- وضع أساس نظري لمعالجة أفعال اللغة العربية آلياً، وذلك بوضع مجموعة من الأنظمة والقوانين التي تغطي حالات توليد الأفعال وتصريفها، وإحالة كل فعل إلى منظومة من القوانين التي تحدد طريقة تصريفه واشتقاقه، وتُظْهر التغيّرات التي تطرأ عليه في مختلف صور التضعيف، والهمز، والإعلال، والإبدال. حتى نصل إلى بناء خوارزمية حاسوبية متكاملة لتوليد الأفعال في اللغة العربية وتصريفها .
ولعل ظهور الجيل الجديد من الحواسيب الإلكترونية، قد أحدث نقلة نوعية حاسمة في تصميم تطبيقات الحاسوب، وذلك من خلال قدرتها على التعامل مع اللغة في جميع مستوياتها، فلا يمكننا أن نتخيل الفوائد النظرية والتطبيقية التي يمكن الحصول عليها من الحاسوب؛ ولاسيما مع قصور الوسائل البشرية عن ملاحقة الكم الهائل والمتراكم من البيانات والمعلومات، التي تمثِّل المعطيات اللغوية القسم الأكبر منها. فالذاكرة الإنسانية ذات صفات تخزينية محدودة، فكثير من الأعمال يمكن أن تقوم بها ذاكرة الحاسوب دون عناء. كتوليد الأفعال وتصريفها.
كما لا يمكننا إنكار عجز الكتب المطبوعة أمام تضخم المعلومات وتعقيدها وسيلةً لتقديم المادة التعليمية لمتعلمي اللغة العربية الناطقين بغيرها، وكذلك عدم فاعلية وسائل التعليم التقليدية الأخرى. وهنا يأتي الحاسوب بديلاً منطقياً قادراً على مضاعفة إنتاجية عمليتي التعليم والتعلم.
وتتميز لغتنا العربية بجملة من الخصائص تجعلها من أكثر لغات العالم قابلية للمعالجة بالحاسوب، فالاطّراد في الضوابط والقواعد نجده واضحاً في الصرف والنحو والمعجم والأصوات، خلافاً لما عليه الحال في الكثير من اللغات الأخرى. أما الشاذ والنادر والغريب، فقلَّته تسمح بمعالجته آلياً بجدوى عالية جداً.
كما تمتلكُ اللغة العربية الكثير من المقومات التي تجعلها طيّعة، سهلة الانقياد لمطالب الحاسوب، فمعجمها يعتمد على الجذور، وصرفها اشتقاقي، فضلاً عن الصلة الوثيقة بين المبنى والمعنى، واطّراد القياس في كثير من الحالات الصرفيّة، والإعرابية، والصوتية، وإلى جانب ذلك كلِّه، فإنّ اللغة العربيّة تُوصف بأنها لغةٌ جبرية رياضية، كلُّ ذلك يرشّحها للمُعالجة الآلية، التي ستجعل منها لغة شائقة ومثيرة، وسهلة التعلم
وهذه الخصائص تجعل من اللغة العربية أكثر من أيِّ لغة أخرى قابلة للتمثيل الحاسوبي، إذ إنَّ العصر الذي نحيا فيه، لا يعترف إلا باللغة التي تفرض نفسها في مجال التكنولوجيا والمعلوماتية، فعن طريق البرامج المُحوسبة لدراسة الأصوات، نستطيع أن نفهمَ خصائصها والظواهر الشائعة فيها، وعن طريق البرامج المُحوسبة كذلك نستطيع أن نبني معجماً شاملاً يكون أكثر تنظيماً ودقةً من المعاجم الموجودة، ويمكن تصميم برامج لدراسة الظواهر الصرفيّة والتركيبية والدلالية في العربية.
إنَّ الهدف من معالجة اللغات الطبيعية حاسوبياً هي تمكين الحاسوب من مضاهاة الإنسان في كفايته وأدائه اللغويّين؛ فيُصبحُ قادراً على توليد اللغة وتحليلها، فيبني الصِّيغ الصرفية ويتعرَّفها في سياق الكلام. ويستطيع أن يتبيَّن الخروج على قواعد الصّرف إذا قال قائلٌ: يَجْلَسُ بفتح اللام بَدَلَ يَجْلِسُ بكسرها، أو قال: مَعْجَم بفتح الميم بدلَ ضَمِّها.
يُقصد بعمليات التوليد الصرفي الآلي ميكنة عملية تركيب الكلمات من عناصرها الأولية، حيث يتلقى المولد الصرفي الآلي مدخلاته على هيئة مجموعة من العناصر الأولية لتكوين الكلمات، ليقوم بتحديد الصيغة النهائية للكلمة. فعلى سبيل المثال تمثل البنود التالية مدخلات تكوين فعل (تَسامَحَ):
- الصيغة الصرفية (تفاعل).
- عناصر الفعل الأصلية (س م ح).
- زوائد تصريفية (ت، ا، ـَـ).
- زوائد إعرابية (البناء).
ليقوم المولد الصرفي الآلي بصهر عناصر الفعل الأصلية (س م ح) في قالب الصيغة الصرفية، مع إجرائه لعمليات الإبدال، والإعلال، والإدغام المنطبقة. ويضيف المولد أيضاً علامات الإعراب. ومن هذا العرض الموجز تتضح السهولة النسبية لعملية التوليد الصرفي الآلي للأفعال.
ويمكننا وصف خوارزمية توليد الفعل باستعمال قوانين ومعادلات ورموز رياضية بالإضافة إلى كلمات لغوية تفسيرية، لوصف وتحديد خطوات سير الخوارزمية.
مثال ذلك خوارزمية توليد الفعل المضارع من الفعل الماضي (ضَرَبَ):
الفعل=
مض+حض+ح1+ر1+ح2+ر2+ح3+ر3+ضر+ضن
شرح الخوارزمية:
حيث إنَّ (مض) تعني حرف المضارعة (ء،ن،ي،ت). و(حض) تعني حركة حرف المضارعة، وهي الضمة للثلاثي المزيد بحرف أو الرباعي المجرد، والفتحة لما سوى ذلك. و(ح1، ح2، ح3) تشير إلى فاء الفعل وعينه ولامه على الترتيب. و(ر1) تشير إلى حركة فاء الفعل، وهي السكون. و(ر2) تشير إلى حركة عين الفعل حسب بابه التصريفي. و(ر3) تشير إلى حركة لام الفعل حسب حالته الإعرابية. و(ضر) تشير إلى ضمير الرفع المتصل -إن وُجد- وهو (ا،و،ي،ن). و(ضن) تشير إلى ضمير النصب المتصل -إن وُجد- وهو (ي، نا، ك، هـ).
فالفعل العربي يتألف من ثوابت، ومتغيرات؛ فالصيغة الصرفية، والزوائد التصريفية، والإعرابية ثابتة، في حين أنَّ عناصر الفعل الأصلية (ف ع ل) متغيرة؛ فالفعل ( اِنْجَذَبَ) يتألف من: صيغة صرفية ( اِنْفَعَلَ ) + عناصر الفعل الأصلية (ج ذ ب) + زوائد تصريفية (ا ن/ـِـْـَ) + زوائد إعرابية (البناء). كذلك الفعل ( اِنْجَبَرَ ) يتألف من:صيغة صرفية ( اِنْفَعَلَ) + عناصر الفعل الأصلية ( ج ب ر ) + زوائد تصريفية (ا ن/ـِـْـَ) + زوائد إعرابية (البناء).
فالأفعال ( اِنْجَذَبَ، واِنْجَبَرَ، واِنْكَسَرَ، واِنْجَرَفَ، واِنْحَدَرَ) - مثلاً - في نظامنا التوليدي = اِنْفَعَلَ (ثابت) + رموز ( ح1، ح2، ح3 ) تشير إلى متغير وهي حروف الجذر + زوائد تصريفية ( ا، ن، ـِـْـَ ) + زوائد إعرابية ( البناء )، ويتم تخزينها في الحاسوب على النحو التالي: ( اِ/نْ/ح1َ/ح2َ/ح3َ )
بإمكان هذا المعالج الصرفي الآلي أن يقدم الخدمة والفائدة لجهتين هما:
أ- اللغة العربية: وذلك عن طريقين:
أولاً: للناطقين باللغة العربية من أبنائها، حيث إنه سيساعد في تيسير تصريف الأفعال العربية دون قواعد لغوية أو قوانين صوتية لغير المتخصصين من الطلاب والعلماء.
ثانياً: اللغة العربية لغير الناطقين بها، والذين يرغبون في تعلمها، حيث إنَّ هذا البرنامج سيساعد في مهمة تسهيل تعلم الصرف لدى متعلمي اللغة العربية.
ب- اللسانيات الحاسوبية العربية، حيث سيسهم في تطوير اللسانيات الحاسوبية العربية، لتكون أكثر فهماً لخصائص اللغة العربية علمياً وتقنياً.
عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي - أستاذ اللسانيات الحاسوبية المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية