د. خالد محمد الصغِّير
في الوقت الذي أتابع فيه عن قرب مسألة إسناد المهمات، وفرص تمثيل الجهات الرسمية في المحافل والمنتديات الداخلية والخارجية، ومنح الفرص التدريبية وما في حكمها لأشخاص بعينهم، وبشكل متكرر يوحي بالانتقاء العمد لهم دون سواهم
... في مؤسسات الدولة، ووزاراتها، وجامعاتها، وكلياتها، وهيئاتها الإدارية العديدة المتنوعة، استحضرت مثلنا الشعبي الذائع الصيت: (ما في ها البلد إلاّ هذا الولد). وقادني استحضار ذلك المثل الشعبي المشهور إلى عدم التردد في إطلاق حكم عام مؤداه أن هذه الممارسة في واقعها نتيجة مباشرة وحتمية للمحسوبية البغيضة التي أفسدت كل جميل في عملنا التنموي الكبير، وقضت على الإبداع وأهله، وقدمت مكانه المجاملات، والحسابات الشخصية الضيقة الأفق. وسأحاول من خلال هذه الإطالة المقتضبة تقديم تفسير مجتهد لهذه الظاهرة بعد أن باتت من الاتساع بمكان يجعل من التوقف حيالها مليّاً لسبر أغوارها ضرورة ملحة، ومناقشة انعكاساتها السلبية المتوقعة المدمرة، مع استعراض سريع لما ينبغي أن نقوم به من أجل التخلص مما يمكن تسميته بانتقائية وتكرار مطالبة تمثيلنا والمشاركة لأفراد بعينهم دون سواهم من أقرانهم في الأنشطة، والفعاليات المحلية، والإقليمية، والدولية على حد سواء.
إن شيوع ظاهرة تكريس الفردنة - إن جاز تسميتها بذلك- والتكرار في إسناد مهمة التمثيل يعود إلى حقبة تاريخية ماضية مازلنا حتى اليوم نجني نتائجها، والتي حبلت بأسباب جعلت من اللجوء إلى ذلك التوجه أمراً مقبولاً، بل إنه في أحيانٍ كان أمراً حتمياً لا فكاك ولا مفر منه. بالأمس القريب كان مثقفونا، ومبدعونا، ومن يشار إليهم بالبنان ثُلّة قليلة يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، ولذا كان المسؤول عن ترشيح أسماء أشخاص للمشاركة في القادم من الأنشطة والفعاليات يواجه معضلة نظراً لمحدودية خياراته، إن لم نقل اقتصاره على خيار أوحد لا مناص منه. أما اليوم وقد خرّجت جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية كوكبة نيّرة مؤهلة مبدعة ذات قدرات علمية، وثقافية، وأكاديمية، فالخيارات أصبحت متعددة بوفرة، وبقدرات عالية متساوية في الكفاءة، والقدرة على التمثيل بشكل مشرّف ولم يعد هناك مبرراً لانتقاء أسماء محددة تسند إليها في كل مرة وحين أمر المشاركة والتمثيل داخلياً، وفي المحافل الخارجية وكأننا نعيش في حقبة ذلك الزمن من التاريخ حيث كنا نشكو من فقر في المواهب، والقدرات، والكفاءات.
المشكلة ليست في اختيار، أو لنقل قصر التمثيل والمشاركة على أشخاص بعينهم، وبخاصة عندما يكونون من أصحاب الفكر النيّر الذين يسجلون إضافة جديدة في كل مرة يمثلوننا فيها، ولكنها تكمن في الإصرار على اختيار تلك النوعية من الممثلين والمشاركين الذين يشعر المتابع أن الاختيار وقع عليهم لاعتبارات ليست الكفاءة والقدرة من بينها، أو على رأس أولوياتها، وإنما لعلاقة شخصية، وبسبب تبادل المصالح والمنافع الشخصية للمُرشِح والمُرشَح للمشاركة، وبدافع المحاباة والمجاملة التي يبديها كل طرف للآخر، أو لنقل بسبب المعايير النفعية التي يمثلها قولنا الدارج (شق لي واقطع لك).
وبنظرة أبعد وأشمل نجد أن تكريس أسماء معينة يتكرر حضورها في كل مناسبة، وفي كل لجنة، وفي كل هيئة، هو الناتج المباشر للعشوائية، والارتجالية، وسوء التخطيط للأنشطة والفعاليات المزمع المشاركة فيها، وهو مؤشر لعدم الرغبة في البحث عن كفاءات متميزة غير تلك التي تتم دعوتها في كل مرة ومناسبة، ونشاط، والإيحاء بأن البلد قد عقمت بعد أن أنجبت هؤلاء الأفذاذ. كما أنه أيضاً محصلة غياب آلية واضحة ودقيقة لعملية اختيارهم، وعدم وجود لائحة منظمة لشروط الترشيح للإيفاد، أو التكليف في المهمات الرسمية، والمؤتمرات، والدورات الداخلية، والخارجية، والفعالية والنشاطات، وتغييب مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة في المشاركة المتكئة على أحقية وأفضلية المرشح، وليس لاعتبارات أخرى غير موضوعية تُسيّرُ بطريقة غير منصفة عملية الاختيار وتوجهها بطريقة محددة مسبقاً.
والفاحص يجد أن الاستمرار في هذه الممارسة سيقود ولا شك إلى نتائج سلبية تتمثل في القضاء على روح الإبداع، والرغبة في المشاركة الفعّالة في بناء المجتمع وتمثيله خير تمثيل؛ لأن من يقف خلف هذا السلوك يبعث برسالة فحواها أن عجلة التنمية في البلد يُسيّرها، ويوقد دفتها أناس بعينهم، وهم دون غيرهم الذين لا يتسع الميدان لاستيعاب آخرين بجانبهم، فهم بمثابة الأوصياء الذين يحملون أفكاراً ورؤى لا تقبل النقاش، ومن هنا فهم المرشحون تلقائياً، وخير الممثلين لكل مناسبة وحدث، والخطورة في تكريس ذلك تكمن في شيوع مبدأ الوصاية الفكرية التي يقوم على تسويقها واجترارها الممثلون الدائمون لنا في كل محفل وشأن.
كما أنها تبدو كذلك في بنائنا لسد منيع أمام الدماء الجديدة المفعمة بالحيوية والأفكار العصرية والتي تمتلك قدرة على العطاء تستحق معها أن تكون خير ممثل لنا، بل وفي المراتب الأولى الذين يجب أن يقع عليهم الاختيار لقدرتهم على تقديم مشاركات على مستوى عالٍ من الجودة والتنوع والإتقان. وإلى جانب ذلك كله نجد أن هذه الممارسة تقود كذلك إلى الإيحاء إلى تلك الأسماء المتكررة بالاستكانة، وعدم بذل الجهد المتوقع بسبب أن من يقف خلف ترشيحهم يكفيه حضورهم وموافقتهم على تولي المسؤولية من غير تطلع لمستوى متميز يقدمه أولئك المختارون، أو المرشحون - كما أنه في الوقت نفسه يقود إلى استهلاك واستنزاف قدراتهم من جراء كثرة المشاركات المتوالية، ويقتل أيضاً روح المنافسة لدى قطاع عريض من الكفاءات التي ترى أن تفانيها وإتقانها لعملها يقابل بالتجاهل، وعدم التقدير، والمكافأة.
والمخرج من هذه المعضلة الإدارية، والتنظيمية، والفكرية يكمن بالإضافة إلى ما تم الإتيان عليه آنفاً في إتاحة الفرصة لمبدأ الأحقية في المشاركة لمن يملك الجديد والمفيد، وفوق ذلك الكفاءة وهي المعايير والاعتبارات الكفيلة بقطع الطريق على المحسوبية، والقبول بالمشاركة الضعيفة، أو غض الطرف عنها، والانتقاء لأسماء محددة ومكررة. كما أنه يمنح في الوقت نفسه بارقة أمل للقدرات والقامات العلمية والفكرية المغيبة قسراً عن مشهد التكليف بالمشاركة كي تكون حاضرة لتشارك وتمثلنا خير تمثيل في الأنشطة والفعالية، وفي المحافل محليها ودولييها على حد سواء. ومتى ما عملنا بمقتضى ذلك نكون عندئذٍ قد هيأنا أجواءنا لصعود نجوم مبدعين ينتظرون إتاحة الفرصة لهم ليثبتوا كفاءتهم، وقدرتهم على العطاء، وسوف يقودنا ذلك إلى الانعتاق من رقبة الوجوه المكررة التي تراها في كل شاردة وواردة على الرغم من ضعف مساهمتها وأطروحاتها ومشاركتها وتمثيلها لنا في مختلف المحافل صغيرها وكبيرها محلياً، وإقليما، ودولياً، وقطع الطريق في وجه السماح لقانون الاحتكار، والانتقاء الجائر، والترشيح غير المنصف الذي جسدناه في مقولنا الشهير (ما في البلد إلاّ ها الولد) بالاستمرار والتأصل الذي يؤدي إلى تهميش أصحاب الكفاءات والخبرات العالية المتمكنة والمتعلمة والفذة، وعدم منحهم فرصة إبراز وجهنا الحقيقي، والاعتماد فقط على قدرات فقيرة العطاء، والبذل، والإبداع، توقف نموها وتوهجها عند حد معين غير قابل للتطور ومواكبة مستحقات ومتطلبات عصر الجودة والإتقان، والمهنية العالية. وفي الختام هذه همسة في آذان قدراتنا المتوهجة المحجوبة لا تيأسوا فكفاءتكم ستفرض نفسها يوماً حتى لو حاولوا طمرها في قعر بحور مظلمة.