د. عبد الله المعيلي
كلنا ذاك الرجل الذي يلهث ويلهث متتبعاً كل الفرص الممكنة لتحقيق المزيد من كسب المال، وتحصيل المزيد منه بأي طريقة ووسيلة، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الآية 20 سورة الفجر)، والغريب العجيب أنه لا حدود لهذا اللهث والمكابدة، فكلما تحقق رقمٌ في الرصيد، كلما زاد السعي إلى مضاعفة هذا الرقم، شهية لا تكتفي ولا تشبع، بل تطارد الفرص مثل الظمآن الذي يلحق السراب علّه يجد ماء يشربه، وما علم المسكين أن الأرزاق مقدرة من العزيز الحكيم، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (الآية 22 والآية 23 سورة الذاريات)، فعلى العاقل أن يدرك أن رزقه مقدرٌ سلفاً، فقد أكد الله هذا الحق، بحيث لا ريب فيه ولا شك، وبالتالي على كل عاقل أن يعي أن ما قدّره الله له سوف يحصل عليه دون زيادة أو نقصان، ولا حاجة لإجهاد النفس وإشغالها فيما لا طائل من ورائه.
ومما يثير العجب الذي لا ينقطع، أن جل اللاهثين وراء تحصيل المزيد من المال، يوظّفونه في مجالات متع الحياة وملذاتها، وتلبية حاجات كمالية، ومتابعة كل جديد في الملبس والمركب وأجهزة التواصل، والأكل والشرب.
لا بأس أن يستمتع الإنسان بالمال الذي حباه إياه في كل أوجه المباحات من مأكل ومشرب وملبس، ففي سنن الترمذي (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) وفي رواية (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه)، ولكن في حدود المعقول والمقبول، فلا تبذير ولا سرف ولا مخيلة ولا بخل ولا تقتير، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الآية 31 الأعراف).
فعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالثياب البياض فالبسوها, فإنها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم، وقال بعض السلف: جمع الله الطيب كله في نصف آية: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} («31 سورة الأعراف) وقال البخاري: قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة.
المؤسف أن ينصرف جل اهتمام البعض إلى هذا فقط، يغرق نفسه في ملذات الدنيا وشهواتها وينسى الأهم الأنفع له في آخرته، قال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الآية 18 سورة الحديد)، في هذه الآية إخبار من الله عز وجل لمن يريد أن يرسم له نهاية كريمة ثوابها جزيل حسن، باقية له في سجل أعماله، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يتحقق هذا بإنفاق المال على ذوي الحاجة والفقراء والمساكين، والإنفاق على طلبة العلم ورعايتهم، وعلى الدعوة إلى الله وفق أصولها ومصادرها المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بنية خالصة صادقة مؤمنة، ابتغاء وجه الله ورضاه، والفوز في الآخرة، قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الآية 110 البقرة)، وفي هذه الآية حثّ على الاشتغال بما ينفع في الدين والدنيا، ويعود بالعاقبة الحسنة يوم القيامة.
إنها لمن - وفقه الله - النهاية السعيدة، نهاية يمكن الفوز بها إذا توفرت النية الصادقة ومغالبة النفس الأمارة بالسوء، والعزم على جعل الآخرة نصب العينين، الآخرة التي هي خير من الأولى وما فيها من ملذات وشهوات.