د. جاسر الحربش
تقول آخر إحصاءات الاقتصاد الاجتماعي إنَّ الوضع يُنبئ بثورات اجتماعية قد تجتاح العالم. يبنون النبوءة على حقيقة أنَّ واحداً في المئة من سكان الأرض أصبحوا يملكون أكثر من تسعين في المئة من الثروات، وأنَّ طبقة المحرومين اتسعت والوسطى تقلصت، وفي نفس الوقت صارت الطبقات الدنيا أكثر تسييساً وإدراكاً للواقع الطبقي المخيف. مع هذا التحذير يحث علماء الاقتصاد خصوصاً الدول المتخلفة حقوقياً ومعرفياً على أن تبدأ بسرعة في إحداث التحول المطلوب بداخلها أولاً لتفادي الكارثة القادمة، وأن تحدد بوضوح ما هو الثابت الذي لا غنى عنه لمجتمعاتها وما هو الذي لا بُدَّ من التخلص منه.
إذاً ما هو القابل للتجديد ومسايرة الزمن وما هو الممكن استثناؤه من ذلك ؟ السؤال يضمر أكبر إشكالية واجهتها كل أمة وصلت إلى مفترق طرق.
اليابان ضغط عليها ظرف الاحتكاك بالسفن والبوارج والآلات الأوروبية قبل أكثر من قرن ونصف القرن. حتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن عند اليابانيين سوى مهارات تراثية تقليدية، وهذه لم تكن كافية عند المواجهة مع الآخر الذي وصل إليهم بدون دعوة ولا ترحيب. عند الاحتكاك لم يجد اليابانيون في أيديهم سوى فروسية الساموراي وسيفه القاطع فقط، ولم يكن ذلك كافياً للتعامل مع البنادق والمدافع والسفن المسيرة بالآلة البخارية. بعد صراع داخلي عنيف بين مراكز القوى التقليدية، حكام المقاطعات وطبقة الإقطاعيين النبلاء وطبقة الفرسان، دخلت البلاد في حالة إنهاك ذاتي مكَّن البرتغاليين والإسبان والإنجليز والأمريكيين والمبشِّرين الكنسيين من استزراع النفوذ والمتاجرة على أطراف اليابان. قبل أن تصل حالة الإنهاك إلى قابلية للاستعمار حدثت المعجزة التي سبقت بها اليابان آسيا وروسيا بالكامل، وتلك كانت القدرة السريعة والحازمة في المزاوجة بين الأصالة والتحديث.
الأصالة تعني استبقاء الثابت المتفق عليه بدون نقاش، والتحول يعني الاستغناء عن أو القطيعة مع ما يعيق التعافي ويصب في مجرى القابلية للاستعمار. خلال خمسين سنة فقط تحولت اليابان إلى دولة تصنع القاطرات والبوارج والآلات الزراعية بالإضافة إلى السلاح الحديث ولم تعد دولة تُغزَى بل دولة غازية.
كوريا الجنوبية ثم ماليزيا وتركيا والصين أمثلة أخرى على دول وصلت إلى مفترق الطرق واختارت الطريق الصحيح، المزاوجة بين أصالة الاحتفاظ بالجوهر والقطيعة مع المعوِّق المكرِّس لقابلية الاستعمار المباشر بمفهومه القديم، أو الاستعمار الاقتصادي والتقني والمعرفي بمفهوم الاستعمار الجديد.
بقية العالم الإسلامي لا تزال واقفة منذ عشرات السنين عند مفترق الطرق. العالم العربي يحدث فيه ما هو أسوأ، الذي هو الرجوع إلى الوراء بدل التقدم إلى الأمام، بتبرير المحافظة على الأصالة الشرعية والأخلاقية والترابط الاجتماعي، والنتيجة تدمير كامل لدول ومجتمعات وتشريد واسع لشعوب ومجاعات وأوبئة. باكستان وبنقلاديش تحاولان عبور نقطة التحول الحرجة، لكن الأصوليات المذهبية والإقطاع والتربح بالأديان والأعراق تشل الحركة تماماً عند مفترق الطرق ومنذ عقود.
إيران، وهي دولة يحكمها نظام هجين من قومية فاشية ومذهبية غارقة في خرافات الماضي، تحاول إقناع الداخل والخارج بأنها اتخذت القرار الصحيح مثل الدول التي سبقتها إلى المزاوجة بين الأصالة والتحديث. النظام الإيراني يعرف أنه يكذب والشعوب الإيرانية تعرف أنَّ نظامها يكذب وأنه يتاجر بمستقبلها لخدمة طبقة واحدة في إيران هي طبقة المؤسسة الدينية والحوزات فقط لا غير. برامج الصواريخ طويلة المدى ومشروعات المفاعلات النووية لا دخل لها بإحداث القطيعة مع قابلية التخلف وقمع الحريات التي تعصف بالداخل الإيراني. مرتكزات النظام الإيراني في التعامل مع الحاضر والمستقبل ثقافة ماضوية خرافية لا تستطيع الإقناع بالمحافظة على الأصالة وبعيدة جداً عن القطيعة مع أعباء الإرث التاريخي المغرق في الإعاقة.
إذاً العالم العربي ومعظم العالم الإسلامي ومن ضمنه إيران ما زالت أمام عقبة اتخاذ القرار للاختيار بين الثابت والتجديد، أي القابلية للانطلاق الحر الأصيل أو البقاء في نهاية الخط القديم الذي لا يعقبه سوى التفكك والتشتت، بسبب الفشل أمام المتطلبات المعيشية للأجيال الجديدة وتزايد السكان وقابلية الابتزاز من قبل المجتمعات التي سبقتها في اتخاذ القرار.
باختصار، في العالمين العربي والإسلامي ما زال هناك غموض في تعريف ما هو الثابت وما هو المتغير، ما هو القابل للتجديد وما هو الذي ليس كذلك، والقرار في أيادي مراكز القوى التقليدية. النقلة النوعية تحتاج إلى شجاعة استشرافية لجمع أفضل وأنبل وأنبغ العقول لإنجاز مهمة التعريف الجامع المانع والملزم لما هو أصالة لا غنى عنها، وما هو معوقات ظاهرة أضرارها ويجب التخلص منها. ترك الأمور لتخريجات مصالح ومراكز القوى التقليدية سوف ينهك ويشتت شمل الجميع كما أشارت الدراسات الاقتصادية الحديثة.