جاسر عبدالعزيز الجاسر
رغم مغادرته مناصبه التي كانت توجه السياسة الخارجية الأمريكية، لا تزال أفكار وبصمة هنري كيسنجر واضحة وتوجه السياسة الأمريكية، وبالذات في القضايا الكبرى، وهو ما وضح في أسلوب تعامل الأمريكيين مع نظام ملالي إيران؛ فقد وضح بعد فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات جديدة على إيران بسبب إصرار الأخيرة على المضي قدماً في إنتاج وتطوير الصواريخ البالستية وهو الذي ترى فيه واشنطن تطويراً لقدرات إيران التسليحية وأن هذه الصواريخ ستكون رديفاً للأسلحة النووية؛ كونها وسيلة نقل القدرات التدميرية النووية إلى مناطق العالم.
الإجراء الأمريكي وإن لم يوقف رفع العقوبات الاقتصادية على نظام ملالي إيران، إلا أنه يضيف عبئاً اقتصادياً وسياسياً على طهران، إذ إن العقوبات الأمريكية الجديدة أضافت شركات إيرانية وأخرى خارج الحدود وشخصيات إيرانية اعتبارية إلى القائمة السوداء التي يحظر التعامل معها، وهي خطوة تحد كثيراً من التفاؤل الذي ساد الأوساط الإيرانية, وتنبئ بأن الإدارة الأمريكية لن تترك نظام ملالي إيران ينفذ أجندته سواء في مجالات التسلّح أو دعم الإرهاب وحتى التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
التدرّج في اتخاذ قرارات فرض العقوبات أسلوب وضعه هنري كيسنجر إبان إدارته لوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن أسلوب الخطوة خطوة ليس فقط في المعالجات السياسية في التفاوض، بل أيضاً في اتخاذ القرارات والمواقف، إذ إن تناول ومعالجة كل القضايا كحزمة واحدة مع الطرف الآخر يعقّد عملية التفاوض وقد يفشلها، إضافة إلى أن تناول القضية كملف منفصل عن القضايا الأخرى يغري الطرف الآخر ويتيح للمفاوض الأقوى، وهو في هذه القضايا الجانب الأمريكي، أن ينفّذ ما يخطِّط له ويضع ما يمكن اعتباره (كمائن) يقع فيها المفاوض الآخر واحداً تلو الآخر بعد أن يتحقق للمفاوض الأول هدفه المستهدف بإغلاق الملف الأكثر صعوبة. وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية كان ملف تصنيع الأسلحة النووية الإيرانية هو الأكثر خطورة وصعوبة، وكان هو المهم لدى الأمريكيين وحلفائهم الغربيين، وكان هدفهم الأول هو الانتهاء من هذا الملف، حيث كان فتح الملفات جميعها سيجعل النظام الإيراني ينفر، بل حتى يرفض أن تنزع أنيابه دفعة واحدة، ولن يوافق على ذلك، فضلاً عن تشعّب تلك الملفات مما يجعلها تأخذ وقتاً وجهداً لا يمكن توفيرهما مع نظام اتسم بالعناد وحتى العدوانية.
وسواء كان الأمريكيون متفقين مع حلفائهم الغربيين وغيرهم على هذا الأسلوب في التعامل مع نظام ملالي إيران، أو أسلوب خاص بهم، إلا أن الذي وضح للحلفاء أن واشنطن لن تدع طهران تنفذ أجنداتها الأخرى سواء في تطوير وتصنيع الأسلحة، أو مواصلة نشاطها في دعم الإرهاب الإقليمي والدولي، وحتى الاستمرار في تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول وبالذات المجاورة، بل تعالج كل قضية في وقتها حسب تطورات الأحداث ومراقبة سلوك وتصرفات النظام الإيراني باستثمار أي خطأ سلوكي كتورط النظام في أي عمل إرهابي، أو أي خروج عن المسلك الدولي في التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما بدأت واشنطن في تنفيذه بفتح ملف تطوير الصواريخ البالستية بعد إغلاق ملف الأسلحة النووية.