يوسف المحيميد
كثيراً ما نسمع الحكايات العجيبة عن عروس البحر «جدة» أكثر من غيرها، فهي التي تغرق أكثر من غيرها، وهي التي تُسرق أكثر من غيرها، وهي الغامضة والمكشوفة، كانت الغامضة إلا من حواديت المقاهي قديمًا، وهي المكشوفة من حواديت برامج التواصل الاجتماعي حديثًا، فلم تعد أخبارها تخصها، وتطوف في أرجاء المقهى، وتطير مع دخان المعسل في الأرجاء المحيطة، بل أصبحت تطير في شبكة تغزو العالم بأسره، فلم تخف حكاية الذي التهم ممر المشاة لسنين، ووضعه مدخلاً لقصره، ولم تخف حكاية المطبخ في شارع المكرونة الذي أغلق شارعًا موازيًا لشارع التحلية لمصلحته، ولم يخف خبر القبض على موظف بأمانة جدة اعتدى على أرض خاصة بالأمانة وحاول بيعها، وبالطبع هذا حاول، وغيره قد يكون فعلها وباع أرضًا لا يمتلكها!
حكاية أمانة جدة تحتاج إلى صفحات، وشوارع جدة وأنفاقها وحاراتها تحتاج إلى أكثر من الصفحات، ربما مجلدات، ولكن الذي لا يحتاج إلى الكثير من الحديث، هو الإجابة على سؤال من عينة: لماذا جدة بالذات؟ ما الذي يجعل التجاوزات والمخالفات في جدة أكثر، ما الذي يجعل الفساد يغرق جدة كما الماء؟ هل هذه الأعمال، أو ما يسمى مخالفات وتعديات على أملاك الدولة، يتم التعامل معها هناك على أنها «فهلوه» وذكاء؟ هل لا توجد مكافحة الفساد هناك؟ وقد يسألني أحدكم: وهل مكافحة الفساد هنا أدت دورها في تقليم أظفار الفساد الشيطانية؟ وقد يسأل آخر: وهل هذا يحدث في جدة لوحدها؟ ربما هناك غيرها كثير، لكن جدة أكثر حضورًا وانكشافًا من غيرها، ربما هي أكثر مدنية، وأعلى صوتًا من غيرها!
وإذا كانت جدة تمتلك كل هذا الصوت العالي، وكل هذه الشفافية، والجرأة على كشف أوراقها أكثر من غيرها، فإن على مدننا الأخرى أن تمتلك الروح ذاتها، والقدرة على البوح والكشف، لأن هذا النقد الواضح والصريح لكل ما يحيط بِنَا، ولكل ما نراه ونشهد عليه، هو وحده ما يجعلنا أكثر تطورًا، بأن نكشف أخطاءنا، ونواجهها، ونعالجها.
ومع ذلك، فإن أسوأ ما في الأمر، أن نعتاد مثل هذه الأخبار المرَّة، وتصبح أمرًا يوميًا مألوفًا، بمعنى أن أخبار التعديات على أملاك الدولة، وعلى المال العام، تصبح أمرًا عادياً لا يثير فينا شيئًا، وإنما نقرأها في صباحاتنا، كما نقرأ الإعلانات المبوبة، ثم تتحول في اليوم التالي إلى خبر بائت ومستهلك، لا يتذكره أحد، ولا ما حل بفاعله، وإنما خبرًا تسلينا به قبل الأفطار!
أعتقد أن المواطن اليوم أدرك الشفافية جيدًا، وتعلمها، وعايشها فعلا، وهو الآن بحاجة لما بعد ذلك، إلى الحزم في القرارات تجاه هؤلاء الذين يقتحمون صباحاتنا، باستفزاز يهز جبين الوطن!