يوسف المحيميد
«وأتى يوم «15 أيار» بعد انتظار مُر، وفي الساعة الثانية عشرة تماماً، لكزني أبوك بقدمه وأنا مستغرق في نومي قائلاً بصوت يهدر بالأمل الباسل: قم.. فاشهد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، وقمتُ كالمسعور، وانحدرنا عبر التلال حفاةً في منتصف الليل إلى الشارع الذي يبعد عن القرية كيلو مترًا كاملاً، كنا كلنا، صِغَارًا وكبارًا نلهث ونحن نركض كالمجانين... إلخ».
كلما استعدت كلماتك، صديقي غسان كنفاني، في قصتك «أرض البرتقال الحزين»، وأنت الذي تم اغتيالك في السادسة والثلاثين، بتفجير سيارتك في الحازمية قرب بيروت، بعدما تركت لنا إرثاً سردياً مهماً، عكس واقع وتحولات القضية الفلسطينية، أقول كلما استعدت مقطعك هذا، وأنت تتحدث عن النكبة، في الخامس عشر من أيار 1948، شعرت بالخيبة الكبيرة، فرغم خيبتك هنا، في هذا المقطع الموحي، وغيره من المقاطع في قصصك القصيرة، ورواياتك، إلا أن الخيبة الآن أكبر يا غسان، وفداحة الواقع العربي اليوم، لم تتوقّعها، ولم يتوقّعها أحد غيرك، ولو استيقظتَ، ونفضتَ تراب قبرك، ومعك رفاقك إميل حبيبي، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وناجي العلي، وغيرهم من أدباء وفناني فلسطين الراحلين، ورأيتم ضراوة الواقع اليومي وشراسته، وكيف ذهب عدونا الوحيد في مغبَّة النسيان، وأصبحت العواصم العربية تحاول أن تبعد اليدين القذرتين عن حنجرتها قبل أن تنفق اختناقاً، ولم يعد ثمة جيوش عربية كما في قصتك الحالمة، وإن كان ثمة جيوش، يا غسان، فهي متخصصة في إبادة شعوبها، فلم تعد عين الجيش السوري على الجولان، ولا آلته العسكرية موجهة إليها، بل هي مسلطة منذ سنوات على الشعب السوري، إبادةً وتهجيرًا!
لم يعد أحد يفكر بقلق في فلسطين، ولا أحد يتذكرها، وقد أصبحت مثل عجوز مهجورة، ومهملة في سرداب مظلم ورطب، لم يعد أحد يكتب بغضب عن بناء المستوطنات الإسرائيلية، هل رأيت يا غسان، لم نعد نقول العدو الإسرائيلي، أو الصهيوني، بل نتحدث عن إسرائيل كدولة فحسب، كم أخجل وأنا أكتب لك، وأفكر مرارًا بحرق رسالتي هذه، فلا تصل إليك، وتقض مضجعك ومنامك الطويل!
هل تصدق يا غسان، أصبحنا نشعر بسعادة لأبسط الأشياء، صغرت أحلامنا كثيرًا، لم نعد نفكر في فلسطين، ولا في شعبها، ولا بعدونا الوحيد إسرائيل، لقد تكالب علينا الأعداء، هل سمعت بإيران مثلاً؟ ماذا قلت؟ لا يا صديقي أنت تتحدث عن إيران الشاه، لقد تغيّرت الحياة السياسية كثيرًا بعد رحيلك المفاجئ، واختُطفت إيران التي تعرفها، وأصبحت في أيدي حزب ديني طائفي يحلم بإمبراطورية فارسية على أنقاض عالمنا العربي!
هل تتذكّر صديقي كيف كُنتُم تستهجنون الكلام، ولهجة التنديد، وتنتظرون الأفعال؟ نحن الآن نبتهج بأقل القليل، نستبشر حتى بالتنديد العربي، وضد عدونا الفارسي الجديد، فقد نسينا عدونا القديم الذي التهم فلسطين، وانشغلنا بهذا الذي يكاد يلتهم عواصمنا العربية واحدة تلو الأخرى!
هل نعزِّي أنفسنا يا غسان؟ أم نعزيك فيك من جديد، وأنت تموت الآن مرة ثانية؟