إبراهيم عبدالله العمار
31 أغسطس 1940م، كانت حرب بريطانيا تصل لمرحلة حرجة.
«حرب بريطانيا» هو ما سمّاه الإنغليز حملات الطيران الألماني الذي قصف بريطانيا بعنف في الحرب العالمية الثانية لإجبارها على معاهدة أو الاستسلام، وكانت أول معركة كبيرة في التاريخ تُستخدم فيها الطائرات فقط، واستمرت 4 أشهر بين طياري ألمانيا النازية وبريطانيا. كانت الأخيرة تخسر الكثير من الطائرات، وتولى قيادة الأسطول البريطاني توم غليف بعد مقتل القائد السابق في اليوم الماضي، ومن أسباب اختياره براعته، فقد أسقط عدة طائرات، منها 5 في يوم واحد فقط، فكان واثقاً. ركب غليف طائرته وانطلق يطلب العدو في سماء لندن، وما هو إلا قليل حتى أظلمت السماء بقاذفات «جنكر 88» الألمانية، فهاجمها وفريقه قبل أن ينتبه الألمان وأسقط طائرة، ثم أهال النار على أخرى، وقبل أن يهاجم الثالثة سمع طلقة تضرب مركبته، وإذا بالنار تشتعل في طائرته الصغيرة. رأى ألسنة اللهب تتصاعد، والحرارة تكتنف المقصورة. حاول المناورة ليطفئ النار بالهواء الخارجي لكن فشل، فقد أصيب خزان الوقود. مد ذراعه ورأى جلده يحترق. أزال الأسلاك وقناع الأكسجين وحاول القفز لكن لم يقدر، فَقَدَ طاقته وقوّته. لم يعرف ما يفعل، لا زالت النار تحرقه. مد يده لمسدسه وفكر أن يموت برصاصة بدلاً من يموت حرقاً، لكن أثنته فكرة يائسة برزت في آخر لحظة، وهي أن يفتح أعلى المقصورة ثم يقلب الطائرة في الهواء وهذا يمكن أن يقذفه خارجاً، ونفّذ فكرته، وقبل أن يسقط انفجرت طائرته وقذفته للخارج. وجد نفسه في كتلة من النار وتمسّك بالمظلة (باراشوت) بقوة والتي أنزلته للأرض بعنف. احترقت معظم ساقيه، وذراعيه، ووجهه.
في مدينة غرينستد الشرقية بمستشفى الملكة فيكتوريا، تولى علاجه الطبيب أرتشيبالد ماكندو، والذي برع في علاج المصابين بالحروق. كان ماهراً لكن له نظرة أخرى، وهي أن الإنقاذ لا يكفي، بل يجب أن يسعى الطبيب أن يحسن مظهر الحرق ليعيش المصاب حياة طبيعية، ذلك أن بعض المحترقين نجوا من الموت لكن ظلوا مشوهين لا يقدرون أن يختلطوا بالناس، وهذا ما جعل ماكندو يجرب طرقاً جديدة في الجراحة التجميلية، وبسبب شراسة الحرب العالمية الثانية وكثرة استخدام الطائرات فيها زاد عدد المحترقين، وكان ماكندو يجرب عليهم (بعد إذنهم) طرقاً علاجية جديدة لمحاولة تجميلهم بعد إنقاذهم. الطرق بدائية مقارنة باليوم، وتشمل استئصال أجزاء صغيرة من الجلد السليم وزرعه مكان الحرق، والكثير من العمليات كانت أليمة وبطيئة، وعلى المريض أن ينتظر أسابيع في وضعيات شاقة مثل أن تكون الذراع مخيطة بالصدر لإيصال الدم للخلايا، لكن تلك العمليات التجريبية تحت إشراف ماكندو هي التي فتحت الباب للطب اليوم أن يبرع في علاج المحروقين.
بعد أن عالجهم ماكندو، ومنهم الطيار غليف، كره أنهم معزولون ومكتفون بالبقاء في المستشفى، خشية نظرة الناس لأشكالهم، فقرر ماكندو شيئاً جريئاً: أن يخرجهم للعالم لأول مرة بعد إصابتهم. نظّم رحلات لمدينة غرينستد الشرقية رغم المقاومة الشديدة للطيارين، وجعلهم يختلطون مع الناس، وعلى عكس ما ظن الطيارون أن الناس سيتقززون ويخافون مناظرهم البشعة إذا بمدينة غرينستد تحتضنهم، والناس يتعاملون معهم بالود والتفهّم، على غرابة أشكالهم، حتى إن أهل المدينة أزالوا المرايا من المطاعم والمقاهي والأماكن العامة، وتجنّب الناس التحديق والنظر المطول لهم، حتى عُرِفت غرينستد الشرقية باسم «المدينة التي لا تحدّق»، وكانت أول خطوة لخروج الطيارين من عنبر الحروق إلى حياة طبيعية.