أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
لمّا استقرّ الرأي بمؤلِّف كتاب «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود» على ما استقرّ عليه من تصوّر مؤامرة كونيَّة على العرب، فقد رأى أن البشرية قد تواطأت على تزوير التاريخ ضدّ العرب، وقد آن الأوان لتصحيح ذلك التاريخ. وكتابه، كما قال، مشروع في «صميم المعركة المصيريّة التي تخوضها أمتنا ضدّ الإمبرياليَّة والصهيونيَّة».(1) بهذا الاحتقان جاءت لهجة الكتاب، وبسببه تحوّل العمل إلى مرافعة للمحاماة عن أمجاد العرب العريقة ضدّ الإمبرياليَّة والصهيونيَّة وأذنابهما كافّة لبترها من الجذور. فتعرَّى الكتاب من رصانة المنهاج العِلْمي، الذي لا شأن له بالمزايدات السياسيَّة، ولا بالمعارك الأُمميَّة المصيريَّة الفاصلة، مهما برَّرتها العواطف وجيَّشتها الأنظمة. ويأتي هذا الخطاب طِبْق ما يمكن أن أسميه بـ»عقليَّة الصَّهْيَنَة»، أي تعليق كلّ سوأة على الغرب والصهيونيَّة. وهذا مَرضٌ ثقافيٌّ عضال، يهدف إلى خلع المسؤوليَّة عن كاهل ذاتك أو قومك وإلقائها على العدو، لتستريح.(2) ولا غرو؛ فحينما يتحوَّل الباحث إلى بُوقٍ إديولوجيٍّ، والعالِم إلى مروِّجٍ لمنشور مَذهبٍ أو تيّارٍ، والمُثقَّف إلى مِذياعٍ حِزبيٍّ سياسيٍّ، فقُل على البحث والعِلْم والثقافة السلام!
على أن الكتاب لا يعدو تاريخَ حروفٍ وأسماء فقط، وتلاعبٍ خلالهما، كما رأينا في كتب (كمال الصليبي). وهو، إذن، تكرار للخواء الاستدلالي الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، بل البالغ درجة من التزييف المكشوف. سِوى أنه سيتزحزح بالأماكن التوراتيَّة عن (عسير)- التي جاس خلالها الصليبي- شمالًا صوب (غامد وزهران)؛ فقد وَجَدَ، هو الآخر، أسماء أماكن قابلة للتأويل والفكّ والتركيب، ولو افتعالًا وتكلُّفًا شديدًا. فـ(مِصْر) ليست بـ(المصرمة/ المصرامة)، التي طنطن حولها الصليبي طيلة حياته، وليست في عسير هذه المرَّة، بل هي: جبل، أو ربما وادٍ، لا ندري، سمّاه هو: «مصريم»، وادَّعى أنه يقع في بلاد (غامد).(3) تُرى أين يقع مصريم هذا في بلاد غامد، وليكن جبلًا أو سهلًا أو واديًا أو حتى بيتًا عائليًّا، كما كان الصليبي يلتمس الأسماء حتى داخل بيوت الناس؟! لا يُتعبنّ القارئ نفسه بالبحث؛ لأنه لن يجد مصريمًا لا في بلاد غامد ولا في غيرها. هو مكان متخيَّل، مبتكر التسمية، لا وجود له على أرض الواقع. وإنما ثَمَّةَ قرية اسمها: (المَضْرُوْم)، من قُرى (رغدان)، بسراة غامد، وجبل اسمه: (المَضْرُوْم)، في بلاد (بالشهم) من غامد.(4) وهذا المَضْرُوْم سبق أن ذكره الصليبي(5) من ضِمن احتمالاته المتعدّدة لاسم «مصرايم» (مصريم) التوراتي. لكنّه رجَّح أنه (المصرمة) في جوار (أبها)، أو (مصر) في وادي (بِيشة)، أو (آل مَصْري) في جهة (الطائف). أمّا (أحمد داوود)، فلم يعُد متردِّدًا في أن المَضْرُوْم هو مصرايم. وقد غفل عن أن العلاقة بين الكلمتَين، لو صحّت، لا بُدّ أن تكون صوتيَّةً، لا بَصَريَّةً من خلال الرسم الكتابي. وشتّان صوتيًّا بين الصاد والضاد.
على أن المؤلِّف لا يحلِّل شيئًا، كسَلَفه على الأقلّ، ولا يُعلِّل قولًا، وإنما ينطلق من مسلَّمات جاهزة لديه، مفروغ منها، (لديه أيضًا). كأنْ يقول لك: إن (الفُرات)- ذلك النهر العراقي العظيم- هو (الثرات)، وأن هذا الثرات وادٍ في غامد. تُرى أين يقع الثرات هذا في بلاد غامد؟! لا يُتعبنّ القارئ نفسه بالبحث؛ لأنه لن يجد الثرات لا في بلاد غامد ولا في غيرها. وإنما هناك واديان باسم (ثَرَاد)، لا (ثرات). أوَّلهما وادٍ يُسمَّى (ثَرَاد الزُّهران)، أُقيم عليه سَدٌّ، افتُتح 1428هـ، يقع في محافظة (العقيق) بمنطقة (الباحة)، وهو من روافد وادي (تُرَبَة). ووادٍ آخر باسم ثَرَاد أيضًا يقع جنوب العقيق؛ لذلك يُسمّونه: (ثَرَاد الجَنوبي)، من روافد تُرَبَة كذلك.(6) واسم هذا الوادي وسابقه ذو معنى عربيّ، مشتق من مادة (ثَرَدَ). وليس في العربيَّة (ثَرَتَ) البتَّة، كما ليس ثمَّة وادٍ بتلك التسمية المحرَّفة الواردة في كتاب (داوود). ذلك أن من معاني الثَّرْد: المَطَر الضَّعيف. وأَرْض مَثْرودة ومُثَرَّدة: أَصابَهَا تَثْرِيدٌ مِنْ مَطَرٍ، أَي لَطْخٌ من الثَّرْد. والثُّرْدُود بالضَّمّ: المطَر الضَّعيف كذلك.(7) وما زلنا بلهجتنا الفَيْفيَّة نقول: ثَرْوَدَ بالماء ونحوه ثَرْوَدَةً، أي خَوَّضَ فيه، فاختلط وَحلُه بمائه. فمعنى تسمية الوادي بـ»ثَرَاد» مشتقّ من هذه المعاني المائيَّة، ولا علاقة له بالفُرات. وفي اسمه إيحاء بأنه رافد محدود نسبيًّا، والثَّرَادان هما كذلك بالفعل، وليسا بالواديَين العظيمَين، فضلًا أن يكون أحدهما نهرًا عظيمًا كالفُرات، الذي جاء وصفه في (التوراة) على النحو الآتي:
«وَيَكُونُ السَّمَكُ كَثِيرًا جِدًّا لأَنَّ هذِهِ الْمِيَاهَ ت َأْتِي إِلَى هُنَاكَ فَتُشْفَى، وَيَحْيَا كُلُّ مَا يَأْتِي النَّهْرُ إِلَيْهِ. وَيَكُونُ الصَّيَّادُونَ وَاقِفِينَ عَلَيْهِ. مِنْ عَيْنِ جَدْيٍ إِلَى عَيْنِ عِجْلايِمَ يَكُونُ لِبَسْطِ الشِّبَاكِ، وَيَكُونُ سَمَكُهُمْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَسَمَكِ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ كَثِيرًا جِدًّا. أَمَّا غَمِقَاتُهُ وَبِرَكُهُ فَلا تُشْفَى. تُجْعَلُ لِلْمِلْحِ.»(8)
أ فهذه من صِفات (وادي ثَرَاد) في شيء؟!
وبالطبع لا يمكن أن يُعَدّ عُبور مثل الثَّرَاد حَدَثًا فارقًا استأهل عليه العبرانيُّون تلقيبهم بهذا اللقب. ولكَم عَبَروا أمثالَه، وأكبر منه، من الأودية في ترحُّلهم المستمرّ! لا يُتصوّر أن يُعَدّ عُبوره، إذن، أمرًا ذا بال أصلًا، لا بالنظر إلى عِظَمه، ولا بالنظر إلى ما يمثِّله من فاصلٍ جغرافيٍّ حَدِّيٍّ بارز. هذا من حيث الدّلالة اللغويّة، وطبيعة المكان، ومنطق الربط بين المفردة التوراتيَّة ومعناها. ثم ما الذي بقي من اسم الفُرات نفسه؟ ما بقي: الراء فقط. الفاء هي ثاء، والتاء دال. تمحُّلًا قلبَ الثاء فاءً والدال تاءً، وصَيَّرَ الوادي المتواضع نهرًا عظيمًا، هو الفُرات، هكذا اعتباطًا. فإذا صحّ مثل هذا الصنيع، صار أيُّ شيءٍ يعني أيَّ شيءٍ آخر، ولا يصحّ في الأذهان شيء بعدئذٍ، ما بلغ الأمر هذا المبلغ من التماس الشبه بين التسميات، ونَحْل العلاقات بين المَواطن. بل لَما عاد للوثائق من معنى ولا للّغة من وظيفة، لو جاز الاعتداد بذاك «السيرك» الحروفي الذي ظلّ يرقص على حباله أولئك المؤلِّفون.
ومثل اختلاقه الرابط بين (الثَّرَاد) و(الفُرات)، وبين (المَضْرُوْم) و(مصرايم)، فعلَ بادِّعائه أن (وادي طُوَى) هو الواقع في (عَقيق غامد)، وأنْ «ليس في الوطن العربي كلّه أيّ وادٍ آخر يحمل هذا الاسم غيره»(9) [كذا!]. فلا المعلومة الأولى صحيحة ولا الأخرى! ذلك أن اسم الوادي هو: «وادي الطَّوِيّ»، لا «طُوَى»، من روافد (كراء). وهناك أماكن شبيهة أسماؤها بهذا الاسم في غير بلاد غامد، وليس كما زعم أن «ليس في الوطن العربي كلّه أيّ وادٍ آخر يحمل هذا الاسم». منها- على سبيل المثال، إذا تبعنا منهجه في التماس الأشباه-: وادي (طِـيَـة)، غرب جبال (بني مالك)، في منطقة (جازان)، على الحدود مع (بلغازي). وفي شرق (عُمان) وادٍ رائع بعيونه وشلّالاته اسمه: (وادي طوي)، أو (طِيْوِي)، في (ولاية صُوْر). وهناك قرية (الطَّوا) في تهامة (عسير)، وهو المكان الذي كان الصليبي(10) من قبل قد زعم أنه المشار إليه بوادي طُوَى. بل هناك من أودية (مكَّة) وادٍ اسمه: (وادي طُوَى)، و(وادي ذي طُوَى).(11) و(الطَّوِيّ) أيضًا: بئر بأعلى مكَّة، عند (البيضاء)، دار (محمَّد بن يوسف الثَّقفي)، احتفرها (عبدشمس بن عبدمناف)، كما جاء عن (ابن إسحاق) في «السيرة النبويَّة».(12) إلى غير هذا. فما أكثر الأسماء وما أكثر تشابهاتها! فإذا أضيف إلى ذلك تلك العمليَّات العبثيَّة من لَـيّ الأحرف وتحريف الأسماء، أمكن عندئذٍ أن يُقال أيّ شيء عن أيّ مكان، ممَّا لا وزن لقوله، تاريخًا ولا لغة. بل لقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أن كلمة «طُوَى» في الآية القرآنيَّة ليست باسمٍ للوادي المقدَّس أصلًا، وأن ذلك الفهم محض وهمٍ قرائيّ، وإنما معنى الكلمة أن القداسة فيه مضاعفة، فهذا مثل قول (عَدِيّ بن زيد العبادي):
أَعاذِلُ، إِنَّ اللَّوْمَ في غَيْرِ كُنْهِهِ
عَلَـيَّ طوًى مِنْ غَيِّكِ الُمـتَرَدِّدِ
وقيل معناه: إنك بالوادي المقدّس، فاطوهِ بسَيرك طوًى، أي طَيًّا. وقيل: اللفظ إشارة إلى أن النداء إلى موسى جاء طوًى، أي مكرَّرًا مرَّتَين. (13)
** ** **
(1) داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 94.
(2) ولمّا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد بلغ هذا المرض الثقافي بأهله إلى تصوير تنظيم (داعش) الإرهابي، مثلًا، على أنه صناعة صهيونيَّة، أو حتى إيرانيَّة! مع أنه تنظيم لم يأتِ بجديد، إذ يمتح من بئر عتيقة معروفة، غير معطّلة إلّا «تكتيكيًّا» في بعض الحِقَب. وما عشعش هذا التفكير التنصّلي التآمري اللا نقدي، فسيظلّ التاريخ يعيد نفسه؛ وسيظلّ للعرب في كلّ حقبة مِشجَبٌ و(ذاتُ أنواط).
(3) انظر: داوود، 98، 137- 000.
(4) انظر: الزهراني، علي بن صالح السلوك، (1981)، المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة: بلاد غامد وزهران، (الرياض: دار اليمامة)، 226.
(5) انظر: (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 247.
(6) انظر: الزهراني، 56.
(7) انظر: الزبيدي، تاج العروس، (ثرد).
(8) سِفر حزقيال، الإصحاح 47: 10- 12.
(9) انظر: داوود، 160.
(10) انظر: التوراة جاءت من جزيرة العرب، 70.
(11) انظر: الأزرقي، محمَّد بن عبدالله، (2003)، تاريخ مكّة وما جاء فيها من الآثار، دراسة وتحقيق: عبدالملك بن عبدالله بن دهيش (مكّة: مكتبة الأسدي)، 959، 963.
(12) انظر: ابن هشام، (1955)، السيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السقا؛ إبراهيم الإبياري؛ عبدالحفيظ شلبي (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي)، 1: 148.
(13) انظر: تفسير الطبري، (سورة طه، الآية 12).