تتظافر الشهادات والآثار- منذ (هيرودوت)، فـ(مانيثو)، و(سترابو)، و(ألينيوس)، و(يوسيفُس)، و(وهب بن مُنَبِّه)، و(الهمداني)، إلى جانب نصوص «العهد القديم»، فنصوص الحوليات الآشوريَّة، والعاديّات المِصْريَّة- على نقض ما خُيِّل إلى صاحب كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بصورةٍ تامَّة. فلا تاريخ لبني إسرائيل في جزيرة العرب، ولا علاقة لهم بها، إلَّا علاقة بعض الغزو والعدوان، صُدَّ صَدًّا كاسحًا، حتى إنهم أَلقَوا تابوتهم على آثارهم فارِّين إلى بلاد الشام، كما تقدَّم في ما سجَّلته كتب التاريخ من ذلك. ثمَّ كانت تلك الهِجرات التي حدثت بعد ميلاد السيّد المسيح فارِّين من بلاد الشام لاضطهادهم من قِبَل الرومان، مستوطنين في شَمال الحجاز، في (تيماء) وضواحي (يثرب)، حينًا من الدهر، حتى أُجْلُوا مرَّةً أخرى ليعودوا من حيث أَتوا. أمَّا مَن تهوَّدَ من العرب، فشأنٌ مختلف؛ فاعتناق دِينٍ شيءٌ، والأَعراق وتاريخ الأَعراق وأوطانها شأن آخر.
ثُمَّ ليَحُلّ لنا صاحب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» المعادَلة الآتية، أو ليَحُلّها أحد أتباعه أو معجبيه، في ضوء زعمه السورياليّ: أن (أورشليم) كانت في (النماص)، جنوب غرب المملكة العربيَّة السعوديَّة، وأنها قرية (آل شريم):
لقد وردَ اسم (أورشليم) في رسائل الكنعانيِّين الفلسطينيِّين إلى الفراعنة في مِصْر، خلال الألف الثاني قبل الميلاد. ذلك أن من أقدم النقوش إشارةً إلى اسم (أورشليم)، والموجودة اليوم في المتحف المِصْري بالقاهرة، تلك اللوحات المكتوبة بالخط المسماري، وباللغة البابليَّة والكنعانيَّة الفلسطينيَّة، التي سبقتْ إليها الإشارة في ما عُثِر عليه في (تلّ العمارنة)، من رسائل الكنعانيِّين إلى فرعون. وفي تلك الرسائل، القادمة من (فلسطين)- لا من جنوب غرب الجزيرة العربيَّة!- إلى (مِصْر وادي النيل)?لا إلى (مصرامة عسير)!? يذكر المرسِل، واسمه (عبد يحيبا)، حاكم (أورشليم) في فلسطين، اسم مدينته بلفظ: «أوروسالم»، مستنجِدًا بفرعون مِصْر لصَدِّ مهاجمة العبرانيّيِن، كما عرفنا من قبل.
إن ورود اسم أورشليم في تلك الرسائل الفلسطينيَّة، التي تعود إلى ما قبل عام 1336ق.م، يُسقِط أيّ زعم بأن أورشليم كانت في مكان آخر. وهو يدلّ على أن هذا الاسم أقدم استعمالًا من تاريخ خروج الإسرائيليِّين من مِصْر ودخولهم محتلِّين لأرض (فلسطين)، فضلًا عن تاريخ (داوود) أو (سليمان). بل هو أقدم من ورود (إبراهيم الخليل) إلى فلسطين. ولمّا كان كذلك، وكان الاسم غير عِبريّ الأصل، تعثَّر به اللسان العِبري في البدء، فنطقوه: «يوروشاليم». وأغلب الظن أن «سالم/ شالم» هذا اسم إلهٍ وثنيٍّ فلسطينيٍّ، ولعلّه إلهٌ مختصٌّ بالسلام لا بالحرب.(1) أمَّا «أور»، فنعرفها كلمة في الساميَّات العراقيَّة بمعنى «مدينة»، أو «بلدة»، حتى إن العراق كان يُسمَّى: «أُور الكلْدانِيِّين»، كما في العبارة التوراتيَّة: «وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطًا بْنَ هَارَانَ، ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ.» وقال الربّ لإبراهيم- بزعمهم-: «أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا».(2) ومن هنا فكأن (إبراهيم) لمّا جاء فلسطين قادمًا من العراق سمَّى المحلَّة التي فيها الإله (سالم)، بلسانه العراقي: «أور سالم»، أي «مدينة سالم»، أو «بلدة سالم». وبمعنى آخر: «مدينة السلام». وقد ظلَّت أورشليم مدينة فلسطينيَّة لليبوسيِّين، لم يستول عليها اليهود إلّا في عهد (داوود)، عَقِب قتله البطل الفلسطيني (جالوت). ثُمَّ توالَى الاستيلاء على ديار الفلسطينيِّين، أرباب الأرض الأصليِّين، بالشراء تارة وبالسطو المسلّح تارة.(3)
وكذا ورد اسم (أورشليم) في نقوش أخرى، كما في النقوش الآشوريَّة. ففي عهد الإمبراطور الآشوري (سنحاريب، 681- 705ق.م)، ورد اسم أورشليم بلفظ: «أوروسليمو».(4) وهذا قبل تاريخ تدمير (نَبُوخَذْناصَّر) لأورشليم، وسبْي اليهود إلى (بابل). أم لعلّه أصاب نَبُوخَذْناصَّر الحَوَلُ والخَبَلُ؛ فترك أورشليم فلسطين غربًا واتَّجه جنوبًا يقصف استباقيًّا قرية آل شريم البائسة في النماص، التي لم توجد على وجه البسيطة، ولم يوجد السيّد (شريم) نفسه الذي سمّيت باسمه القرية، إلّا بعد ذلك بأكثر من ألفي عام؟! ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله!
* * *
التساؤل الذي يفرض نفسه هنا: ما سِرّ مثل ذلك الاهتمام منقطع النظير بالبحث عن تاريخ بني إسرائيل والإصرار على التنقيب وراء سيرة اليهود؟ وما جدواه؟
ما الذي تستفيده البشريَّة إذا عرفت أن بني إسرائيل كانوا في الشام، أو في اليَمَن، أو في الصومال، أو في الهونولولو؟!
أ ليس لكلّ أُمَّة من الأُمم تاريخٌ، ولها ما لها من تراثٍ وماضٍ مجهول؟ فلماذا انصباب الاهتمام على أُمَّةٍ واحدة، تبقى الشغل الشاغل للباحثين والمؤرّخين والآثاريّين، من عرب ومستشرقين وسواهم؟
إنه نبش يبدو وراءه ما وراءه من إعادة ماضٍ لن يعود، اللهم إلّا باستعادة التطاحن بين الشعوب؛ حين يأخذ كلّ شعب في الركض وراء أساطيره البائدة قبل آلاف السنين، وحكاياته التاريخيَّة، ومواطنه القديمة، صحيحةً أو مزعومة، ساعيًا إلى تصفية حسابات الأمس البعيد، ممَّا أكل الدهر عليه وشرب.
إن بعض البحث لا يُعَدّ ترفًا معرفيًّا فحسب، بل هو إلى ذلك تشريعٌ غير مسؤول لأبواب من الشرور والخراب، ولو على المدى البعيد. ومطامع إسرائيل في العالم العربي معروفة، وبلا حدود، وهي تأتي في تصريحات قادة هذا الكيان الغاصب لأرض كنعان (فلسطين)، بلا مواربة، منذ تأسيسه في العصر الحديث. على لسان (هرتزل)، فـ(وايزمان)، و(مناحيم بيجن)(5)، إلى آخر الوصاوص الصهيونيَّة، التي لم تَعُد وصاوص اليوم، بل أضحت وجوهًا سافرة، ومرحَّبًا بها في بعض البلاطات العربيَّة. وهي دعاوَى تاريخيَّة لا ترى فلسطين إلّا قلب إمبراطوريّة شاسعة، تشمل مِصْر، والشام، والعراق، والجزيرة العربيَّة. حالمةً بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء الأُسطوري؛ كي يعود من كان قبل ثلاثة آلاف عام في مكانٍ إلى ذلك المكان. وهي فوضى تاريخيَّة، لو نشبت لوازمُ معناها الأرعن، لتحوّل العالم بأسره إلى مجازر لا أوَّل لها ولا آخِر، ولا نَصْر فيها سوى لفكرةٍ حمقاء، مهووسة بالأساطير التاريخيَّة المقدَّسة. فأَنْ يأتي المؤرِّخ العربي المعاصر بعد هذا ليفرش بدَوره سجّاده الأحمر- المرقّع بالتأوُّلات، والتخمينات، والظنون، واللا منهاج إجمالًا، بل بالافتراءات الكالحة- لمواطئ تلك الدعاوَى والمطامع، التي ما كانت يومًا لتفتقر إلى خدماته البلهاء.. أَنْ يحدث مثل ذلك، فما يملك عاقلٌ تعليلًا مقبولًا لهذا السلوك، النابي عن كلّ القِيَم العِلْميَّة والحضاريَّة. وتلك مشاريع لم يتبنَّها الصهاينة أنفسهم؛ لا تعفُّفًا، ولكن لأنهم، وإنْ غَلَوْ في أمرهم، من الفِطنة بحيث يحترمون العقل العامّ، ويحترمون الحدّ الأدنى من المنهاج الاستقرائي، رابئين بطرحهم عن الإسفاف التفسيري، وعن الانحطاط إلى ضروب من الشعوذات التاريخيَّة؛ وذلك كيما يُبقوا على مصداقيَّةٍ ما لما يزعمون. وهو ما لا يحسب له الفاتك العربي الهُمام حسابًا؛ فإذا هو يتردَّى في مهاوي التآليف المجّانيَّة، غاية طموحه إثارة الدهشة، وكسب الصيت، وأن يُمْسي حديث الأسمار والمجالس، وإنْ على حماقة ارتكبها، أو فضيحة اقترفها؛ شأنه شأن أجداده من ذؤبان العرب وصعاليك الصحراء. والعِرق دسّاس! ذلك أن الصِّيت في ثقافةٍ كهذه كَسْبٌ عظيمٌ لا يَعْدله كَسْب، وغايةٌ جُلَّى تبرِّر في سبيلها كلّ وسيلة؛ فلبئس خامل الذِّكر، من حيث كان:
ذِكرُ الفَتى عُمرُهُ الثاني، وَحاجَتُهُ
ما قاتَهُ، وَفُضولُ العَيشِ أَشغالُ!
والعرب لم يعودوا «ظاهرة صوتيَّة»، فحسب، بل هم إلى ذلك «ظاهرة صيتيَّة»، بما جمُل من صيتٍ أو بما قبُح. وهذه من تلك، على كلّ حال. لأجل هذا، لم يكن من فراغ أن امتلأت مكتبتنا العربيَّة بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على ذهن بشر، ممّا أكثره لا وزن له عند التحقيق، لا في عِلْم ولا في أدب، ولا نظير له في تراث أُمَّة من الأُمم.
** ** **
(1) انظر: ظاظا، حسن، (1970)، القدس مدينة الله أم مدينة داوود؟!، (الإسكندرية: جامعة الإسكندرية)، 9.
(2) سِفر التكوين، 11: 31، 15: 7. وانظر أيضًا: م.ن، 11: 28،
(3) انظر: ظاظا، م.ن، 17- 18.
(4) انظر: م.ن، 7- 8.
(5) انظر في هذا مثلًا: السقّاف، أبكار، (1997)، إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة، (القاهرة: مكتبة مدبولي).
مع التحفّظ على المنزع السياسي الطاغي على المنهج العِلْمي المتجرّد وراء هذا الكتاب.
- الرياض
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify