أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
أُلِّفت بعدَ قراءات (كمال الصليبي) في «التوراة» كُتبٌ كانت أشبه بتهميشات على جهوده، أو استدراكات، وشروح. من أهمها كتاب (الدكتور أحمد داوود)، «العَرَب والساميُّون والعِبرانيُّون وبنو إسرائيل واليهود». ثُمَّ خَلَفَ من بعده خَلْفٌ ردَّدوا مقولاته، ولاسيما حول (الأقصى) ومكانه، وربما تصدَّروا للزعم أنهم أبناء بجدتها أيضًا، غير معترفين بالفضل للمتقدِّم! وثمَّة تظهر الأزمة العربيَّة في الأمانة العِلْميَّة إلى الأزمة في الموضوعيَّة والتحقيق.
وقد امتاز هذا الكتاب بنزوعٍ قوميٍّ صارخٍ، يوظِّف ما كان بدأه الصليبي لينسب التاريخ كلّه إلى العرب وحدهم! على أنهم كانوا أوّل.. وأوّل.. وأوّل. حتى بلغ من المفاخرة إلى القول: إن العرب أوّل من شرب الخمور! ولا شكّ أنهم أيضًا أوّل من فعل أشياء كثيرة بعد شرب الخمور! ولا فضل في أن يكون إنسانٌ أوّلًا في شيء؛ ليس إلّا لأنه في التاريخ البشري أوّلٌ زمانيًّا، وواتته الظروف المناخيَّة والبيئيَّة ليعيش التجربة البدائيَّة، فكان أوّل من فعل وأوّل من ترك. الأب سبق ابنه في إنجاز أشياء كثيرة، وارتكاب موبقات جمّة، ولا فضل له في ذلك ولا فخر؛ ولو لم يكن أبًا لما كان أوَّلًا في شيء. ولا مِدحة له في ذلك، ما لم يكن أوّلًا وآخِرًا معًا. أن تكون أوّلًا ثم تتخلّف، فذلك هو الخسران المبين، وهو أَدْعَى إلى الحياء من نفسك لا إلى المفاخرة بها. وأنْ تكون آخِرًا ثم تتقدّم الصفوف، فذلكم هو الفخر الحق. غير أنه التعويض الحضاري الطفولي، بترداد: نحن العرب كنّا وكنّا وكنّا. وما انفكّ صاحبنا يعيد غرض الفخر في الشِّعر العربي القديم من خلال ما يمكن أن نسمّيه «غرض الفخر في الأصوليَّة التاريخيَّة العربيَّة المعاصرة».
وليس ما لدى الرجل الفخر التاريخي الحضاري بإنجازات العرب فحسب، بل هو يرى أن البشر كلّهم عرب أيضًا. ذلك أنه يقول إن (سام بن نوح) عربيّ اللغة، وهو وأبناؤه وأحفاده عشيرة بدويَّة عربيَّة؛ لأن العروبة سابقة على سام بعدَّة آلاف من السنين، وإخوته مثله بالطبع، و(نوح) قبله عربيّ كذلك.(1) فكيف يصح هذا؟
إذا صح القول بما ترتَّب على قِصَّة الطوفان عِرقيًّا ولغويًّا، فمعنى قوله هو: أن البشر بعد نوح كلّهم أجمعين عربُ الأرومة واللغة، انبثُّوا في الأرض من شِبه الجزيرة العربيَّة! ومؤدَّى ذلك أن البشر الآن كلّهم عرب! وكأنه في هذا يأخذ بالرواية التوراتيَّة الذاهبة إلى أن الطوفان وقع في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد تقريبًا. ونحن نعلم أن العرب كان لهم حضور قبل ذلك التاريخ، فكان لسبأ، ولمعين، كليهما، أو لأحدهما على الأقل، ذِكرٌ حضاريٌّ قبل ذلك، حسب بعض المؤرِّخين. غير أن التاريخ التوراتي لوقوع الطوفان، مع تصوير إنهائه الجنس البشريّ على كوكب الأرض، عدا من ركبوا مع نوحٍ الفُلْك، يتناقض مع قيام حضارات قبل ذلك التاريخ، ممتدّة خلاله، وبعده، في (العراق)، وفي (مِصْر)، وفي (اليَمَن). وعليه، فمَن سلَّم بقِصّة الطوفان، وَفق الصورة الأُسطوريَّة التوراتيَّة، اقتضاه الأمر أن يذهب إلى حدوثه قبل ما لا يقلّ عن خمسة آلاف عام قبل الميلاد. فهل السلالة العربيَّة تعود إلى ما قبل ذلك التاريخ؟! بالطبع إذا سلّمنا بمثل الهرطوقة التي أدلَى بها المؤرِّخ (ابن كثير)(2) القائلة إن الأشبه أن (آدم) أوّل من تكلّم بالعربيَّة، أمكن أن نقول، إذن: إن بني آدمٍ «العربيِّ» هم جميعًا عرب! ومن باب أسهل أن تُصدِّق بأن بني نوحٍ «العربيِّ» جميعًا من العرب. والحقّ أن كثيرًا من أئمتنا في التأليف قديمًا، ممّن يغلو بعض السلفيّين في تمجيدهم، لا يَعْدُون حكّائين سَذَجَة، ليسوا بباحثين ولا بمحقّقين ولا علماء، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولا حتى عقلانيّين، متجرّدين من الجهالات والأهواء، بدءًا من (ابن إسحاق) إلى من شئت منهم، ولا سيما في حقل التاريخ والغيبيات.
لأجل هذا فقد كان الأَولى بصاحب «العرب والساميُّون...» أن لا يأخذ من «التوراة» بعضًا ويدَع بعضًا. ذلك أن قِصَّة الطوفان التوراتيَّة، بتفاصيلها، ومنها إنهاء الحياة البشريَّة، وبدء سلالات بشريَّة وحيوانيَّة جديدة على الأرض من بعد نوح، تتعارض مع العِلم والتاريخ والآثار. كما تتعارض مع زعمه أن العرب كانوا سابقين عليها.
أجل، لقد وردت قِصَّة نوح في (القرآن الكريم)، ولكن دونما إشارة إلى كلمة «طُوفان»، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى شمولي، ولا زعم أن الغرق قد عمَّ جميع العالم، وإنما أُغرِق قوم نوح: «وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ»(3)، وفي آية أخرى، يُحدَّد المغرقون بـ»الذين كذَّبوا بِآيَاتِنَا»، من قوم نوح(4). بل إن «الطُّوفان» لا يعني في المصطلح القرآني سوى فيضا ن. بدليل أنها قد جاءت الإشارة إلى «الطُّوفان» في ما أصاب قوم (فرعون) أيضًا.(5) من هذا يُفهم أن ما حدث- ومهما بلغ عِظَمُه- إنما كان فيضانًا كبيرًا صاحبته أمطارٌ غزيرة، جاء على قوم نوح، فأغرق بعضهم. ذلك كلّما في الأمر، حسب الرواية القرآنيَّة. وهي رواية غير أُسطوريَّة البناء، ولا تَعارُض بينها وبين العِلْم، ولا بينها واحتمالات التاريخ. ولكن ما بقيت في حدود النصّ القرآني، بعيدًا عن الأُسطورة التوراتيَّة، وإسرائيليَّات التفاسير والتواريخ. ببرهانٍ يسير- كان جديرًا بأن يُدركه عامّة الناس، دون عِلْمٍ ولا تاريخ- وهو أن ذلك الحدث الذي أَلَمَّ بقوم نُوح لم يقضِ حتى على تراث قوم نُوحٍ أنفسهم بصورة نهائيَّة؛ فظلّت آلهتهم- مثل (ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر)- معروفة في الجزيرة العربيَّة وما جاورها، وهي من آلهة بعض القبائل العربيّة إلى ظهور الإسلام.(6) فأين ذلك الطوفان الكوني الأُسطوري التوراتي، الذي جاء على الأخضر واليابس، وأنهى تاريخ الحياة السابق على نُوح، وما ترتَّبت عليه من خيالات وأوهام؟!
من هنا لا يستقيم التسليم بالقصص التوراتي الأُسطوري المتعلِّق بنوح وسام وسلالاتهما مع القول بأنهم من العرب، فضلًا عن التمادي في الزعم بإن وجود العرب كان سابقًا عليهما بآلاف السنين.
الإشكال أن تلك المزاعم التاريخيّة الكبيرة التي ردّدها صاحب «العرب والساميون...»، إثر (الصليبي)، لا يدعمها أيّ دليل أثري، كل ما هنالك أسماء وحروف متشابهة. فلا جديد يُذكر بعد دعاوَى الصليبي، حتى إن الكتب التي وُضعت بعده على هذا النهج عيال عليه، وإنْ تنكَّرت لذلك، حتى إن بعضها ليصل إلى درجة السطو على أفكاره وجهوده، دون جديد يُذكر، ودونما ذِكر لسبقه.
وعلى الرغم من أن داوود يذهب إلى أن جميع الجهات الآثاريَّة العربيَّة أجمعت على أنه لا وجود لأحداث «التوراة» آثاريًّا، لا في (فلسطين) المحتلّة ولا خارجها، في أيّ بقعة من الوطن العربي(7)، فإنه يعود ليزعم ذلك الوجود داخل الجزيرة العربيَّة تخصيصًا، وذلك- كما قال حرفيًّا-: «في منطقة عسير من شرق بلاد غامد في شبه جزيرة العرب!»(8) ولا جديد هنا ولا عجيب؛ فهو، كالصليبي، لا يعرف شرق هذه الديار من غربها؛ فإذا رأيت عسيرًا وقد أضحت شرق غامد، فغُضّ الطرف؛ فإنك مع جيل من المؤرِّخين الحالمين. ومع هذا فما زال الكفاح مستمرًا لإعادة رسم خريطة التاريخ من جديد، لجعل الشرق غربًا والشمال جنوبًا. ولكن عَدِّ عمّا ترى من هذا الاضطراب، ولنَعُد بك إلى السؤال: تُرى لِمَ هذا التناقض بين نفي الوجود للأحداث التوراتيَّة والإثبات؟ إنما هذا كيما ينافح عمّا يسمّيه «دولة سوريا العربية التي مركزها بابل»، والعالم أجمع - بحسبه- مَدِين لهذه الدولة حتى بطلوع الشمس والقمر. ويبدو أنه يتَّكئ في هذا على بعض الفرضيَّات، من مثل فرضيَّة المستشرق الأميركي (كلاي)، الذاهبة إلى أن الموطن الأوَّل للساميِّين هو شمال سوريَّة، في البلاد التي كانت تُسمَّى في النقوش القديمة: «آمورو». وكان من قرائن هذه الفرضيَّة أن الأُسرة البابليَّة الأُولى، التي أسَّست (بابل)، أو «باب الله»، كانت نازحة من الغَرب، من «آمورو». وهي فرضيَّة- فضلًا عن عدم نهوضها على أُسس عِلْميَّة برهانيَّة- تقف دون التسليم بها حقائق تاريخيَّة وجُغرافيَّة من الصعب تخطّيها، كما يرى بعض العلماء. ومنها، كما يرى بعض الدارسين، أن انتشار الأُمم الساميَّة جنوبًا لم يكن بالأمر المتصوَّر في تلك العصور إلّا بالإبل. والإبل لم تكن قد استُؤنست واستخدُمت في هذه المنطقة في تلك الحِقَب.(9)
** ** **
(1) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 67- 00.
(2) (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 1: 283.
(3) سورة الفرقان، 37. (4) سورة الأعراف، 64. (5) انظر: م.ن، 133.
(6) جديرٌ بالإشارة هنا نموذجٌ ممّا أحدثته الإسرائيليّات في التراث الإسلامي من تخريفات؛ فلدى تعارض الحكاية التوراتيَّة ببقاء أصنام قوم نُوح إلى ظهور الإسلام، اضطر بعض الرواة إلى اختلاق أكذوبة، تزعم: أن الطوفان لمَّا طبَّق الأرضَ كلَّها، أهبط هذه الأصنام إلى الأرض، ثمَّ حملها الموجُ حتى قذفها إلى شطّ (جُدَّة). فسَفَت الريحُ عليها الرمالَ حتى وارتها. حتى دلَّ شيطانٌ من الجنِّ (عَمْرًا بن لُحيّ) عليها، وأمره أن ينبش الأرض عنها، ويدعو العرب إلى عبادتها، ففعل، وذهب إلى الحَجّ، فدعا العربَ إلى عبادتها قاطبة! (انظر: ابن الكلبي، (1995)، كتاب الأصنام، تحقيق: أحمد زكي (القاهرة: دار الكتب المِصْريَّة)، 53- 54).
(7) انظر: العرب والساميون...، 12، 91.
(8) م.ن، 95.
(9) انظر: ظاظا، حسن، (1990)، الساميُّون ولُغاتهم: تعريفٌ بالقرابات اللغويَّة والحضاريَّة عند العرب، (دمشق: دار القلم- بيروت: الدار الشاميَّة)، 14- 15. على أننا لا نرى هذه بالحُجَّة القويَّة. وهي إنما تقوم على افتراض أن الجزيرة العربيَّة، وما جاورها من بادية الشام والعراق، كانت صحاري، كما آلت إليه من بَعد.