د.حامد الوردة الشراري
“.. إن فرص تطوير العلاقات الاقتصادية بين دولنا واعدة ومبشرة بما يحقق نماء وازدهار أوطاننا، ويدفعنا لتذليل العقبات والمعوقات وتشجيع ودعم تدفق الاستثمارات، وتبادل الخبرات، ونقل التقنية وتوطينها، والتعاون في المجالات كافة...” هذا مقتطف من كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان- حفظه الله- الضافية في قمة الدول العربية ودول أمريكا الحنوبية الرابعة الشهر الماضي، التي فيها حرصه الواضح على نقل التقنية وتوطينها، وتأكيد منه على أهميتها في تنمية الاقتصاد.
دول أمريكا الجنوبية -كبقية دول العالم النامي - فرضت عليها قيود شديدة من قبل الدول الصناعية المتقدمة لتوطين التقنية وإعادة إنتاجها محليا، منذ القرن الماضي من خلال سن التشريعات والقوانين الصارمة كبراءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية وتسجيلها وسرية الصنعة والاتفاقيات والتحكم في المنظمات الدولية ذات العلاقة...الخ، إلا أنه في العقدين الأخيرين بالرغم من تلك القيود برزت بعض دول أمريكا الجنوبية كقوة اقتصادية منافسة ومؤثرة في الصناعة المتقدمة والثقيلة كالبرازيل، وبدأت منتجاتها تغزو أسواق العالم.
في الجانب الآخر، لا تكاد مشاركة الدول العربية في إنتاج التقنية يذكر على الخارطة العالمية وما زالت على هذا الوضع، بالرغم من الجهود الذي بذلت في وقت مبكر من القرن الماضي والاستثمارات الهائلة التي ضخت فيها، منها على سبيل المثال تأسيس مركز للبحث العلمي الصناعي في مصر عام 1939 والمعروف حاليا باسم “ المركز القومي للبحوث”، و” الصندوق العربي للتنمية العلمية والتكنولوجيا “ الذي نشأت فكرته في مؤتمر لوزراء التنمية العرب عام 1976 ولكنه لم ير النور بسبب خلافات في أسلوب إدارته ومقره الدائم.
أما في المملكة فنقل التقنية - كصندوق أسود مغلق- متحقق منذ بداية تأسيس المملكة، وذلك من خلال دخول أول شركة للتنقيب وما بعد ذلك. أما في مجال توطين التقنية- وهو إنتاج التقنية بأيدٍ سعودية- فقد عملت على مدى العقود الماضية العديد من المبادرات لنقل وتوطين التقنية مثل برامج التوازن الاقتصادي وإنشاء مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومراكز التميز البحثي والمراكز البحثية في الشركات الكبرى كأرامكو وسابك وغيرها إضافة للخطط والاستراتيجيات العديدة التي أقُرت ذات العلاقة بنقل وتوطين التقنية كخطط التنمية الخمسية المتتابعة والخطة الوطنية للعلوم والتقنية والابتكار والخطة الوطنية للاتصالات وتقنية المعلومات والاستراتيجية الوطنية للتحول إلى مجتمع المعرفة، والاستراتيجية الوطنية للصناعة وغيرها.
إلا أنه وبالرغم من ثقل المملكة الاقتصادي والسياسي العالمي، وما أنفقته من أموال طائلة لتوطين التقنية، إلا أنها ما تزال تعتمد بصورة شبه كاملة على استيراد التقنية المرخصة.
إن نقل وتوطين التقنية أو ما يمكن وصفه بنقل التقنية (كسلعة تجارية) ونقل المعرفة المرتبطة بها، والقدرة على اكتساب مهارة استيعابها لا اكتساب مهارة استخدامها فقط، والتمكين من انتاجها وتطويرها محليا بأيدي وطنية (توطينها)، بمختلف أشكالها ومجالات استخدامها، أصبحت عوامل إستراتيجية مهمة للنمو والنهوض الاقتصادي للمملكة- بوجه خاص- لاسيما مع زيادة العولمة والمنافسة الاقتصادية الدولية وتوجه القيادة العليا في تنويع مصادر دخل البلد الاقتصادي. ونقل التقنية -بشكل عام- اما ان يكون بأسلوب النقل الأفقي للتقنية؛ أي من الخارج إلى الداخل مع إعطاء عقود نقل التقنية الزخم الرئيسي، أو أن يكون بأسلوب النقل الرأسي للتقنية؛ الذي يعني إنتاج وتوطين التقنية محليا من خلال منظومة توطين التقنية والتي تشمل الجامعات ومدن التقنية ومراكز البحوث والتطوير الوطنية او ما يطلق عليه “البحث والتطوير” وبرامج التنمية البشرية كالابتعاث الخارجي.
ولكون دول أمريكا الجنوبية أقل حساسية وتحفظاً على نقل التقنيات المتقدمة وغيرها مقارنة بالدول الغربية الصناعية، التي تضع قيوداً شديدة لنقل التقنية والمعرفة المصاحبة لها، ولما في هذه الدول من جالية عربية كبيرة ومؤثرة سياسيا واقتصاديا ولها ارتباط ثقافي وتاريخي بالوطن العربي، والتشابه في ظروف التنمية، ولما بدا من كلمات مشجعة ألقيت من قبل قادة تلك الدول في القمة للتقارب والتعاون مع الدول العربية في جميع المجالات، وتحقيقاً لرؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان التي هي نابعة من ارادة سياسة عربية شاملة، ولكون المملكة ذات ثقل اقتصادي وسياسي وريادي مؤثر على مستوى الوطن العربيى وعلى المستوى العالمي تجلى بعضويتها ضمن مجموعة العشرين وفيها ميزات نسبية تؤهلها لـتكون حاضنة للتقنية وتوليدها، ولكون التقنية اصبحت المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي والدول في سباق حميم لامتلاكها، فإن المنطق يفرض بأن تكون المملكة مرتكز (Hub) للعلاقة بين الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية في مجال نقل التقنية وتوطينها.
من هذه المنطلقات، فان آفاق وفرص التعاون بين المجموعتين في هذا المجال الاستثماري الحيوي والواعد-كركيزة رئيسية لبناء تكتل اقتصادي منافس للتكتلات الاخرى- قد تكون من ضمن النقاط التالية:
1-وضع إطار عام للتعاون في مجال نقل وتوطين التقنية يحدد اوجه هذا التعاون ومراحلة و أولوياته والسبل الكفيلة باستمراريته فيما بين الدول العربية، وكذلك بينها وبين دول أمريكا الجنوبية، بحيث يفعل هذا التعاون من خلال جهاز يتولى الاشراف والتنسيق بما يضمن توطين فعلي للتقنية.
2-أن يكون من ضمن أولويات مجالس رجال الأعمال، الذي دعا لتأسيسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله - في ثنايا كلمته، الاستثمار في مجال التقنية وتوطينها.
3-أن يكون هذا التعاون في مجال التقنية وتوطينها شامل لجميع القطاعات الاقتصادية من عمليات انتاجية وسلع وخدمات، مع اعطاء الاولوية للقطاعات ذات الاهمية.
4-دعم و إعطاء القطاع الخاص محفزات للاستثمار في التقنية لتوطينها مع إرساء علاقة قوية بين الشركات المحلية المهتمة بتوطين التقنية وتوليدها والجامعات ومعاهد البحث والتطوير الوطنية، ومع - ايضا- وضع الوسائل او الضوابط التي تحمي التقنيات المنتجة محليا من المنافسة الخارجية وغير العادلة.
5-إنشاء جامعات تقنية أو إعادة هيكلة (تحوير) بعض الجامعات الحالية لتكون تقنية او انشاء مدن للتقنية او مراكز بحوث وتطوير، وذلك بالمشاركة مع أفضل الجامعات والمراكز في دول امريكا الجنوبية والتي كان لها دور بارز في نقل وتوطين التقنية هناك، وبمشاركة القطاع الخاص، وفق خطة واليات واضحة دقيقة تؤدي بالنهاية لتوطين التقنية.
6-استكمال التشريعات والسياسات التحفيزية المرنة لنقل وتوطين التقنية لتهيئة البيئة المناسبة لذلك.
7-إيجاد البيئات التمكينية المتكاملة (البيئة التعليمية التقنية، البيئة المالية والاقتصادية، البيئة السياسية، البيئة الاجتماعية، البيئة الإعلامية، وغيرها) المشجعة والمحفزة للإبداع والابتكار والتي تتسم بها المجتمعات التقنية المتطورة.
التفاؤل كبير بتحقيق رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان-حفظه الله- المتمثلة في كلمته الشاملة في قمة المجموعتين والتي تمثل رؤية مشتركة لاخوانه قادة الامة العربية، بالرغم من المرحلة المضطربة التى تمر بها المنطقة العربية. فمن حقق إجماع وتحالف عربي اسلامي قوي في فترة وجيزة وفي هذه المرحلة بحنكة وحكمة ودهاء سياسي وبعد نظر كما في عاصفة الحزم والتحالف الاسلامي العسكري ضد الارهاب، قادر -بإذن الله - بجمع الامة في مجالات أخرى تخدم الاقتصاد العربي وتحقق المصلحة العربية العليا.