أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن العمل الإجرامي الأثيم الجبان الذي قامت به أيدي الغدر، وجنود البغي والفساد والإفساد، ودهاقنة الجريمة في هذا العصر، من ينفذون إرادة وأوامر التنظيم الفاحش، بلغ هذا الحدث القمة في الفساد والجرم حينما استهدف المصلين ودور العبادة والمواطنين الأبرياء، رجالاً وأطفالاً، وذلك بتفجير مسجد الإمام علي بن أبي طالب في بلدة القديح بالقطيف أثناء تأدية المصلين لصلاة الجمعة، ثم تلاه في الجمعة الماضية التفجير الفاشل في حي العنود بالدمام والذي لو لا فضل الله وحفظه ثم جهود رجال الأمن، وتكاتف المواطنين الأوفياء لكانت كارثة، إنه الإرهاب والتطرف، وفيه من الإفساد في الأرض، واستحلال الدماء المعصومة بغير حق، واستهداف المصلين في المساجد في صورة تجاوزت كل القيم والمبادئ الشرعية.
وإن اللسان ليعجز، والبنان ليقف عن وصف شناعة الجرم، وعظم الحادثة من شباب باعوا ضمائرهم للشيطان، واستخدمهم أعداء الإسلام، وجاوزوا كل الحدود في هذا العمل الأثيم، والجرم العظيم، ويمكن للمتابع أن يصفه بأنه تحوّل خطير في أعمال هذه النبتة الإجرامية، وبات الخطر يستهدف كل فرد منا.
إن مثل هذه الأعمال الإجرامية الإرهابية هدفها الأول هو شق الصف وتمزيق وحدة المجتمع، وجره إلى فتنة طائفية عمياء لا تبقي ولا تذر، وخدمة أعداء الدين والأمة الإسلامية والوطن، كما أنه استجابة لقوى البغي والغدر التي آلمها وأوجعها ما هيأ الله له خادم الحرمين الشريفين من موقف النصرة والحزم والعزم، حتى انعكس الأمر عليهم، فوجدوا في هذه الفئات المجرمة متنفسًا يرومون من خلاله أن يصلوا إلى شيء مما يسعون إليه، ولن يقدر لهذه الجهود الشيطانية النجاح بإذن الله.
وإن مــن منح هذه المحن حينما وقف المجتمع السعودي بكل فئاته وأطيافه ومكوناته وقياداته مستنكرًا لهـذه الجريمة النكراء، والتفافه صفاً واحداً خلــف ولاة أمره وقيادته الحكيمة الرشيدة ضد هذا العمل الجبان،وهو دليل قاطع على أن سعي أولئك المجرمين في ضلال، وأن إيماننا بالله تعالى وثقتنا في نصره وتأييده، ثم لحمتنا الوطنية، من القوة والصلابة ما يوهن يد الغدر والخسة، ويجعل أولئك المجرمين ينقلبون على أعقابهم خاسرين، ونقول لهؤلاء المجرمين القتلة: خسئتم وخاب وحبط تدبيركم، فإن ثقتنا بالله عز وجل ثم بولاة أمرنا، ثم برجال أمننا الأشاوس ما يجعلنا مطمئنين أن هذا الجرم لن يفت من وحدتنا، ولن يوهن من تماسكنا، وسيحدث عكس ما يتوقعون، فولاة أمرنا وقواتنا ورجال أمننا بالمرصاد لهؤلاء القتلة ولمن يقف وراءهم حتى يقام حكم الله فيهم، ويذوقوا وبال أمرهم، وسيعلم الذين ظلموا وأجرموا وسفكوا الدماء الحرام أي منقلب ينقلبون.
إن ما حدث في قرية القديح بالقطيف والعنود في الدمام من غدر وعدوان ليس منفصلاً عن الواقع الذي نعيشه، بل يأتي في سياق ما يجري في المنطقة العربية والعالم من صراعات وتحولات وفتن، يتم فيها استخدام المنظمات الإرهابية المتطرفة وتوظيف أفرادها لتفتيت الأمة، وتشويه الإسلام الحنيف، حيث يتم استخدام النصوص والمصطلحات الشرعية فيما يرفضه الدين، وإقحام نصوص الشريعة الغراء في تحقيق أغراض دنيئة، وتأجيج الفتن بين الشعوب والمجتمعات، بل وبين أبناء المجتمع الواحد، والمستفيد من ذلك كله هم أعداء الدين وأعداء الأمة، وأعداء هذا الوطن الغالي وطن الإسلام الوسطي الصحيح، مهبط الوحي ومنبع الرسالة الخالدة، وأرض الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة المملكة العربية السعودية -حرسها الله-.
ولقد حذرت المملكة على لسان قيادتها الحكيمة مبكراً ودائماً من تنامي خطر الإرهاب والتطرف، وآثاره المدمرة على كافة المستويات الإقليمية والدولية، وكانت سبّاقة في حث المجتمع الدولي على التصدي للإرهاب، ووقفت مع جميع الدول في محاربته، والعمل على القضاء عليه واستئصاله من جذوره، ودعت المجتمع الدولي إلى تبنى استراتيجية دولية شاملة تكفل القضاء على الإرهــاب وتصون حياة الأبرياء وتحفظ للدول سيادتها وأمنها واستقرارها، كما أنّ كلمة العلماء كانت واضحة بينة في تحديد مفهوم الإرهاب، وبيان موقف الإسلام منه، وإيضاح الموقف الصريح من المصطلحات الشرعية التي يحاول هؤلاء الخونة أن يستخدموها، ويجندوا بها الشباب، وهو فهم لهذه النصوص والأحكام تلتقي فيه الأمة على كلمة سواء فمن يبرر هذا القتل والدمار؟ ومن يبرر الانتحار وقتل النفس؟ وأين يجد المتأمل لهذا الفساد من يجيز صورة منه فضلا عن جملته؟
وفي الوقت الذي قامت فيه المملكة بالتصدي لأعداء الوطن والأمة من الحوثيين ومن يساندونهم من الصفويين المجوس، والعمل على إنقاذ اليمن الشقيق من احتلال صفوي بغيض، وتجنيبه ويلات حرب أهلية طاحنة، وما صاحب ذلك من انتفاضة الأمة لنبذ خلافاتها وتوحيد صفوفها لتحقيق الأمن والاستقرار لمجتمعاتها،انتفاضة تجمع الكلمة، وتؤلف القلوب، وتوحد الصف، وتقطع الطريق على المتربصين والمفسدين، وتوجه أقوى الضربات لطائفة بغاة مجرمين يقومون بحرب وكالة عن الصفويين المجوس، ويكون هذا الموقف الحازم الذي حقق العزة، وقلب موازن القوى، وغيّر صورة البغي والظلم، وحقق التصدي بكل قوة وحزم لكل ما يحاك لوطننا الغالي ولأمتنا الإسلامية والعربية من مكائد ومؤامرات ودسائس تفرق الوحدة وتشق الصف، وفي الوقت الذي بات فيه المسلم يرى عزة الإسلام ونصرة المسلمين، في هذا الوقت يظهر علينا هؤلاء الأطفال الذين لم يتجاوزوا سن الحلم فيقومون بعمل إجرامي غير مسبوق، بتفجير بيت من بيوت الله، وقتل وإصابة العشرات من أبناء وطننا الآمنين وهم يؤدون الصلاة، فما أعظم هذا الجرم، وما أعظم هذه الجرأة على الله تعالى، تجمع كل عناصر الجريمة والفساد والإفساد، فانتحار يظن به المنتحر القاتل نفسه أنه يتقرب إلى الله بهذا الصنيع الإجرامي، ودماء أريقت وهي تتجه إلى الله في يوم مبارك، وشق لعصا الطاعة، واستجابة للشياطين الذين يرومون هذا الوطن بهذه الأعمال، جرائم متراكمة، وأعمال إفسادية ينتظمها فعل الخوارج الذين مازالت الأمة منهم في بلاء وابتلاء،وإذا كان قتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا وهدم الكعبة مع مكانتها وقدسيتها، فكيف بهذا الفعل!
من هنــا يتضح أن خطورة هذه التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم (داعش) الإرهابي المتطرف ليس فقط فيما يسفكه من دماء بريئة معصومة، ولكن الخطورة الحقيقية لهذه التنظيمات المتطرفة تكمن في أنه أصبح لديها القدرة على التلون، وتتلقى الدعم الخفي والمعلن لتكون ضمن أدوات استهداف المنطقة، وتنفذ أجندات، تلكم القوى بالوكالة ولديها الأساليب والوسائل المتنوعة لاستقطاب وتجنيد الأعداد الكبيرة من الشباب وبخاصة صغار السن في صفوفها، سواء من الدول الإسلامية أو غير الإسلامية، من أجل تحقيق أهدافها الإجرامية، والسؤال المهم هنا: ما الذي يدفع هؤلاء الشباب وصغار السن إلى الانضمام إلى تنظيم متطرف يمارس العنف والإرهاب والقتل مثل تنظيم داعش الإرهابي؟ وما العوامل الجوهرية التي تقف خلف سرعة تمدد هذه التنظيمات الإجرامية في البلدان العربية؟ وما مصادر تمويل تلك التنظيمات والتي جعلت البعض منها الأكثر ثراءً، والأكثر قوة وتسليحًا مقارنة بالتنظيمات التي تزعم أنها جهادية، الأمر الذي مكن - على سبيل المثال - تنظيم داعش الإرهابي من أن يخوض حربًا على عدة جبهات منذ سنوات، ثم مازال يتمدد في كل يوم في معظم البلاد العربية والإسلامية ما يعني أن هذه الرقعة الممتدة من أقصى الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً باتت ساحة مفتوحة للحرب والقتل وإزهاق لأرواح الأبرياء وتأجيج الاضطرابات والصراعات، ومن ثم ذهاب مقدرات الأمة وخيراتها وأمنها واستقرارها ووحدتها، لا أظن أن أحدا ينتابه شك أن هذه ليست قدرات تنظيم، وما كان لهذا التنظيم أن يصل إلى هذا المستوى، إنما هي قوى وتيارات اجتمعت، وأمم تداعت على أمة الإسلام ليكون هؤلاء الشواذ هم أدواتهم، ومع هذا الوضوح في الرؤية يبقى التساؤل عن عناصر الجاذبية التي جعلت من أولئك بؤرا لتجمع شباب بل أطفال عقوا مجتمعاتهم، وعادوا وطنهم وأمتهم، وشوهوا دينهم، إننا بأمس الحاجة إلى دراسة الأساليب التي يتم بها التجنيد، وفي مقابل ذلك مراجعة واقعنا وأساليبنا التعليمية والتربوية والوطنية التي لم تحقق المواجهة المطلوبة لهؤلاء، وقصرت عن تتبع واقعهم، وتوفير البدائل التي تعين على حصانتهم وحمايتهم، كيف لأساليب الباطل أن تخترق أمننا ووحدتنا، وتصل إلى عقول شبابنا، وتختطفهم أيدي الغدر والخيانة، ولا تؤثر أساليب الحق، ومقومات المواطنة في تحقيق الحصانة اللازمة، أين نحن من مجتمعات شبابنا، وأماكن ممارساتهم، إنهاتساؤلات مشروعة هي مسؤوليات نتحملها أمام الله ثم أمام ولاة أمرنا عن شباب ائتمننا الله عليهم، ولابد لنا أن نتعاون ونتكاتف، ونحاورهم، ونصل إلى وسائلهم ونستخدمها لإيضاح الحق، وكشف الحقائق، وإزالــة اللبس والشبهات.
إن الراصد لأهم الأساليب التي يتم بها التجنيد لا يمكنه أن يتجاوز وسيلة رئيسة هي لغة العصر، وأهم طريقة للوصول إلى مجتمعات الشباب، سهلت للكثير منهم القيام بجرائمه: إنها شبكات التواصل الاجتماعي، والوسائل الجديدة التي أصبحت كالبحر الهائج والموج الهادر، تضخ على مدار الثانية ما يغري شبابنا للمتابعة بل ويتحكم في عواطفهم وتوجهاتهم،كما يجد أن جل الانحرافات الفكرية والعقدية والخلقية كان من أهم قنواتها للوصول إلى عالمهم هذه الشبكات، وأن جزءًا منها كانت دائماً مسرحا ومرتعا خصبا لكل ما يسيء لوطننا ووحدتنا الوطنية، بل ولقيمنا وعاداتنا الأصيلة ولثقافتنا الإسلامية العريقة، بل كانت هي المنطلق لكثير من الضلالات والانحرافات كالتكفير والتأليب، ونشر الأكاذيب والتحريض على ولاة الأمر قولاً وفعلاً، وهو ما أدى إلى التفجيرات الإجرامية وتجاوز الأنظمة، والمشاركة في ميادين الصراع باسم الجهاد، والدعم والتستر وغيرها من الجرائم والمفاسد والانحرافات، التي كانت وما زالت تفت في عضد وحدتنا الوطنية وتهدد أمننا واستقرارنا.
إن مصدر خطورة شبكات الإنترنت ووسائل التواصل، وتنامي آثارها السلبية على الأمن الفكري، كونها سريعة الانتشار، متعددة الخيارات، جاذبة لعنصر الشباب، يمكن من خلالها أن تصل المعلومة مدعمة بما يؤيدها من وسائط وضعت باحترافية، بل يكتب فيها حقائق مشوهة لتخترق العقول، ويكون بسببها نشر أفكار منحرفة تؤدي إلى زعزعة العقائد والإساءة إلى الدين، وكذلك آثارها الخطيرة عبر إمكانية تجنيد الشباب وبخاصة صغار السن لدى التنظيمات الإرهابية واقتناعهم بالفكر التكفيري من خلال الكتب والإصدارات التي تزيد على الالاف من الكتب والمقالات والخطب، التي فيها من الشبهات الفكرية والانحرافـات والأفكار الضالة ما فيها، ويتم من خلالها
ومما يزيد من خطورة هذه الكتب والإصدارات التي تحمل الفكر التكفيري والمتطرف أن بعضها لا يحمل عناوين صريحة على غلاف هذه الكتب والإصدارات، حيث إن الهدف من ذلك هو سهولة ترويجها بين أوساط الشباب، وأيضا لإبعاد الرقابة عنها من الجهات المختصة، فأصبح هذا الفضاء الإليكتروني منبرا لتلكم الجماعات، مشاركاتها مدروسة، وتوقيت المشاركة محسوب ليحقق هدف الأعداء، فإذا ما تحدثنا عن موقف شرعي، فيجب أن نتجاوز الرفض والاستنكار، والموقف الذي يمثل ردة فعل إلى موقف شرعي يبرئ ذممنا أمام الله ثم أمام ولاة أمرنا، فأين دور المحضن الأول وهو الأسرة، فمن المؤلم أن يكون عدد من المتورطين في هذه القضايا هم من أبناء أسر كريمة، وقبائل كبيرة، أسهمت عبر عقود في وحدة هذا الوطن وتماسكه، ولحمته وكان للآباء والأجداد دور رئيس في بناء هذا الكيان الكبير، فلماذا انحسر دور الأسرة، وهي خط الدفاع الرئيس، لأنها ترى مؤشرات الانحراف والانخراط قبل أن يراه الآخرون، ويمكنها أن تمنع شيئًا كثيرًا من المخاطر إذا ما تحملت مسؤوليتها، ثم يتكامل الدور فيما بعد بتحمل الجميع لمسؤوليته، كل بحسب قدرته وإسهامه، المعلم في مدرسته، والأستاذ في جامعته، والداعية في خطابه وتأثيره، والخطيب بما مكّنه الله، وهكذا تلتقي دوائر المسؤولية لتكتمل عناصر الحضانة والتأثير، وهذا ما عنيته بالمراجعة فهي مراجعـة لهذه الأدوار المهمة، وكل عليه بحسب وضعه ومكانته، وفي المحصلة الأمن أمننا، والوطن وطننا، ولابد أن نغار على وحدتنا، وأن نحفظ نعم الله علينا لتدوم وتزداد، أما ولاة أمرنا الأوفياء، وقادتنا الأفذاذ فقد أعذروا إلى الله، وقاموا بواجبهم، ولقد جنب الله بلادنا بتوفيقه ثم بهذه الجهود المباركة المسددة من ولاة أمرنا وقوات أمننا الأشاوس الأبطال، فتناً ومصائب وبلايا لا تخفى، فما تحقق ويتحقق يجسد حرصهم على وحدة هذا الوطن، وعلى أمنه واستقراره ونموه ورخائه، وأخذهم بكل أسباب السلامة، وتغليب أعلى المصالح، وتجنيب الوطن والإسلام والمسلمين أعلى المفاسد، رغم ما يزايد به المغرضون، ويدندن به الحاقدون، ولكن الله غالب على أمره، ومتمم على هذه البلاد نعمه وكل ما يحفظها من هذه الفتن، لأنها أصل الإسلام، ومن حمى توحيد الله، وأقام شريعة الله، وانتهج الوسط وتجنب الشطط ومن كان هذا شأنه فإنه منصور بنصر الله، مؤيد بتأييده، وإننا لنحتمي بحمى الله، ونستجير به ونلجأ إليه أن يحفنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله بقدرته أن يزيد ولاة أمرنا تسديداً وتوفيقاً، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه ويوفق ولاة امرنا إلى كل خير إنه سميع مجيب.