إيقاع تقني باهت ">
منذ عرفني الجوال وتعرفت إليه وأنا أشد توترا وأكثر انزعاجا، حيث ظل يشكل لي نمطا من الرقابة والتتبع والالتزام والعتب واللوم، كما أنه ينقل لي باستمرار أخبارا لا تسر.
ورغم مرور عشرين عاما على رفقتنا فلم أتواءم مع الجوال، وكلما وجدت فرصة لتجاهله وفقده لجأت إليها بغبطة كبيرة. لا أطيق اللوم فإذا لم أتجاوب مع من اتصل ظل يمارس ضغطه بالاتصال حتى يفح علي سموم عتبه ويؤذي مشاعري ولا أستطيع الرد، وأكثر من الاعتذار فحسب.
بدا الجوال أشد إزعاجا لي في مرحلة الواتس أب عنه فيما سبق، حيث استلب الزمن وأرهق الذهن والعين، وظلت تفاجئني كثرة المجموعات فيه تلك التي تضيفني دون أن تراجعني هل أقبل أم لا؟ وهو ما زادني حنقا على التقنية الذكية.
يزعجني تكاثر نغمات الرسائل والأسماء التي علي أن أرد على قائمتها وأواصل الدردشة معها يوميا، وهكذا ينتهى ثلث اليوم أو أكثر من ذلك دون أن أنجز كتابة بسبب الواتس أب الذي كثيرا ما يطرح حوارات لا تسمن ولا تغني من جوع، ويورطنا بشخوص وعلاقات لا نبتغيها، عدا أنه مفسد للعلاقات كذلك لأنه يجعل بينك وبين من لا تجيبه أو تحظره فجوة لا تلتئم، يحرجك الواتس أب، إذ تتعرض لمصيدة أطراف عديدة تريد التواصل ولا تريده أنت.
خط يومي ساخن، على طرافة أيقوناته وابتكاراتها المعبرة إلا أنها تضطرك إلى المجاملة بإرسال بعضها إلى أشخاص لا تعني ما تبعث به إليهم حيث تفقد معناها تدريجيا.
ابتذلت مشاعر الحب ومشاعر العائلة، ومشاعر الإبداع حيث أسيء هدف استخدامها فتبلد الحس بها شيئا فشيئا، وأضحت العلاقات دون خصوصية ودون التزام، كما أنها جعلت الناس تستبدل الصوت بالكتابة بلغة بيضاء وأحيانا صفراء ساخرة طوال الوقت، حتى وإن تطور الأمر إلى تسجيل الرسائل صوتيا فيما بعد.
تمضي إلى أي مكان وأنت تتلفت مثل الأبله تتفقده أو تتحدث مع أحدهم ولا تعلم ما كنت تفعل حينها. كلما جالست أحدا وجدته مشتتا لا يعطيك حقك من الانتباه والإصغاء يتابع شاشته الصغيرة يحدق في عينها أكثر مما يحدق فيك مدعيا أنه يستمع إليك لتنخدش مرايا صحابك في روحك فلا تعود إلى الاهتمام بهم والحرص على لقائهم.
أما كاميرا الجوال فقد أضحت ملهاة المشاهد اليومية، في اعتقادي كذلك أن الأماكن ومشاهد الحياة وفضاءاتها كرهت الناس لعدم انتباههم إليها وتنشقها والاستمتاع بها فابتذلوها بلقطاتهم، وصارت علاقاتهم بيومياتهم مجرد لقطة مؤقتة تعرض وتنمحي عاجلا ثم يمضون تاركين ظلال الأماكن فيهم دون أثر حقيقي ودون أية متعة.
لم يعد التفاعل مع الحياة بمواقفها ومشاهداتها مدهشا وكافيا ومثيرا وعلامة ثقافية ومعرفية بل استبدل ذلك كله بلقطات متشابكة متسرعة مزدحمة في كاميرا الجوال.
لم تعد للحياة حشمتها ووقارها ومكانتها، سلبت منها مقوماتها بإهمالها أو بتأطيرها في تمثال صورة أو لقطة عابرة جدا إلى لا شيء.. كل راكض نحو اللقطة.. كل يظن أنه مصور بارع، كل متحفز إلى إثبات وجوده في جهة ما، يسجل حضورا فحسب من أجل الآخرين، تنافس غير شريف واعتياد على ممارسة سلوك ليس ضروريا على حساب ماهو ضروري، لذلك فقد كنت أتعمد كثيرا أن أترك الجوال يومين أو أكثر على الوضع الصامت أو أكاد أغلقه إلى أن تنتهي بطاريته وينطفئ.
الجوال.. معتقل كبير يوما عن يوما يكثر أسراه المأخوذين به، ولا أرتضي أن أقع رهينة إلا لإلهامي لأنه يحررني حتى من خيالي في صورة تروقني.
- هدى الدغفق