«الفرجة على الذات» لـ(د. إبراهيم التركي) ">
إعداد - نورة عبدالله السحيباني / إشراف - د.ليلى بايزيد:
المقدمة
أما بعد:
اللغة العربية لغة فصاحة وبيان, لا يخفى ذلك إلا على جاهلٍ بها، ومن أهم ما يميز البلاغة العربية الحجاج, وهو القدرة على توظيف اللغة ومكوناتها في سياقها الثقافي لصالح نتيجة معينة.
إن مظاهر الحجاج في اللغة العربية كثيرة, سواءً في نصوص نثرية أو شعرية, وقد قامت دراسات عديدة حول هذا المجال, منها مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته لـ عباس حاشاني، ومفهوم الخطاب من منظور حجاجي لـ د. محمد شبال، وقد شدتني هذه الظاهرة اللغوية العميقة والدقيقة في اللغة العربية، مما ساقني إلى البحث فيها والغوص في أعماقها.
قام بحثي هذا على المنهج الوصفي لمقالة لـ د. إبراهيم التركي بعنوان «الفرجة على الذات», استخرجت فيها بعض الخطوط الحجاجية العريضة التي اتسمت بها المقالة.
الفرجة على الذات
(1)
** يبدو أن المؤدلجين من أرباب البيان والبنان (وبينهما المسافة الفاصلة بين المثقف والعامي أو بين الكاتب الكبير والمغرد الصغير) يلتئمون فيتجاوزون الحدث الآنيَّ كي يوظفوه لخدمةِ مشروعهم أو متبوعهم بما يعنيه ذلك من إنشائيةٍ وخلطٍ وخبطٍ وقراءاتٍ مبتسرةٍ لتحميل التيارات الأخرى وزرَ الإشكالِ ومساءلتِهم حوله، وكأن المركبَ لا يتسعُ إلا لعقولٍ مستنسخةٍ تُنزلَ المختلفين في محطةٍ خارج الحدود كي تصفوَ الحياةُ لهم وحدهم، وينعمَ الأحياءُ بهم لا سواهم.
** لا أدلجةَ تستطيعُ الانفكاكَ من هذا التوجه؛ فقد مارسها «الإسلامويون» حين أقصوا غيرَهم واستعدَوا عليهم، وظنُّوا بهم سوءًا، وشوهوا سيرَهم بمقالاتٍ وتآليفَ وخُطبٍ انتشر معظمها في الثمانينيات والتسعينيات، وعادت الكرةُ إلى مرماهم منذ العقد الماضي حين تسيد «الليبراليون» فدافعوا عن ساحاتهم، واندفعوا في خصوماتهم، وتجريد الآخَر من حقه في مواقفه، واستدعاءِ ما كتبه رموزهم ولو تراجعوا عنه أو اختلفت ظروف قوله، ومارس الجانبان مكارثيةً مقيتة، والخاسر من هذا هو الوطن.
** لو آمنَّا بمرحلية الفكر وتغير التفكير لما نعى أحدٌ على أحد، ومن يرصدُ المقولَ فسيرى اختلافًا كثيرًا من الطرفين لا ضير فيه ما دام دافعُه إيمانًا لا مصلحة، ولو تأملنا لوعينا افتقادَنا التحليلَ العميق المحايد لكثيرٍ من المظاهر السلبية التي يعيشها المجتمع؛ لتأثرنا بالشخصنةِ التي تُنزل الناس حسب مواقفهم الخاصة من بعضهم، وقد تسيءُ للمجموع ويمتد ضررُها إلى أمس الإنسانِ ويومه وغده.
** للإرهاب أن يهنأَ مادام همُّنا الأولُ الاحترابَ اللفظيَّ الداخليَّ بين المكونين المتخاصميَن المنشغليَن بوهم البحثِ عن أدوات الجريمة وترك المجرمِ طليقًا يهزأُ من ضوضائنا ويُعدُّ نفسه لجرمٍ جديد.
** وقى الله الأمةَ من كيد أعدائها وفرقةِ أبنائها.
(2)
** اختطَّ أستاذُنا الدكتور عبدالله الغذامي نهجًا نادرًا؛ فلم يحظُرْ من متابعيه في «تويتر» الذين تجاوزوا ربع مليون إلا واحدًا تعرض لسيدنا علي بن أبي طالب بالسباب، وهو نهجٌ قسا فيه على نفسه أولًا كما يصعبُ احتذاؤُه في وسيطٍ يسكنه القادر والعاثر والصادق والكاذب، وفي زمنٍ ساوى بين الفطِن والفدْم، ومع نشءٍ فيه من لا يعطي العالِم قيمته التي يستحقُّها، وهو ما نأسفُ له ونتمنى تبدلَه.
** تربينا على احترام المعلمين، وتوقير العلماء، وجمال الصمتِ بحضرتهم، والإفادةِ منهم، والحوارِ الهادئِ المستشرفِ لجديدهم، ودفعهم إلى إضافة مخزونهم المعرفي والحياتيِّ، فامتدت قاماتُنا بهم، وما نزال نتعلم منهم وندعو لهم ونتطلع إلى أن نكافئَ ما بذلوه من أجلنا؛ فليتنا نَعدُّ وجود العلماء في وسيطٍ لا يكلفنا غير زِرٍ وإصبعٍ دروسًا تطرقُ أبوابنا لتضيءَ أذهانَنا.
(3)
** ليس عسيرًا أن تنكأَ الجراح، لكن العسيرَ تضميدُها، وقد ترمُّ على قيحها فيستحيل برؤُها.
(4)
** من يَحترمْ يُحترمْ.
الروابط والعوامل الحجاجية في النص
ينبغي أن نميز بين صنفين من المؤشرات والأدوات الحجاجية: الروابط الحجاجية والعوامل الحجاجية، فالروابط تربط بين قولين أو بين حجتين على الأصح (أو أكثر)، وتسند لكل قول دوراً محدداً داخل الإستراتيجية الحجاجية العامة، ويمكن التمثيل للروابط بالذوات التالية: بل، لكن، حتى، لا سيما، إذن، لأن، بما أن، إذ.
أما العوامل الحج اجية فهي لا تربط بين متغيرات حجاجية، أي بين حجة ونتيجة، أو بين مجموعة حجج، ولكنها تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحجاجية التي تكون لقول ما وتضم مقولة العوامل أدوات من قبيل، ربما، تقريباً، كاد، قليلاً، كثيراً، ..... وجل أدوات القصر.
وقد ورد في النص عدة مواضع للعوامل والروابط الحجاجية، نبدأ بـ العوامل :
• « وكأن المركب لا يتسع إلا لعقول مستنسخة»، العامل هنا «إلا» قيد اتساع المركب لعقول مستنسخة فقط.
• «وينعم الأحياء بهم لا سواهم»، العامل هنا «لا» قيد نعيم الأحياء بالمؤدلجين فقط لا سواهم. لو لم يذكر العامل لجعل التـأويلات مفتوحة بالمؤدلجين وغيرهم.
• فلم يحظر من متابعيه في تويتر» الذين تجاوزوا ربع مليون إلا واحداً»، العامل هنا « إلا»، ولو لم يرد العامل هنا لخمنا أن المحظورين عددهم ثلاثة أو أربعة أو خمسة.....
الروابط:
• « كي تصفو الحياة لهم وحدهم، وينعم الأحياء بهم لا سواهم».
الحجة : كي تصفو الحياة لهم وحدهم.
الرابط : و.
النتيجة : ينعم الأحياء بهم لا سواهم .
• «لو آمنا بمرحلية الفكر، وتغير التفكير لما نعى أحدٌ على أحد».
الحجة: لو آمنا بمرحلية الفكر، وتغير التفكير.
الرابط : لما.
النتيجة: نعى أحدٌ على أحد.
• تربينا على احترام المعلمين، وتوقير العلماء، وجمال الصمت بحضرتهم، والإفادة منهم، والحوار الهادئ المستشرف لجديدهم، ودفعهم إلى إضافة مخزونهم المعرفي والحياتي فامتدت قامتنا بهم.
الحجة : تربينا على احترام المعلمين وتوقير العلماء.......... إلى إضافة مخزونهم المعرفي والحياتي.
الرابط : فا.
النتيجة: فامتدت قامتنا بهم .
• ليس عسيراً أن تنكأ الجراح، لكن العسير تضميدها.
الحجة: ليس عسيراً أن تنكأ الجراح.
الرابط : لكن.
النتيجة: العسير تضميدها.
• من يحترم يُحترم.
الحجة: من يحترم.
الرابط : مضمر.
النتيجة : يُحترم.
وسائل الإقناع :
المنطقية الدلالية، الوسائل اللغوية.
المنطقية الدلالية: هي العلاقات النصية التي يقيمها سياق النص الحجاجي، من خلال عرضه على مفهوم النص العام، هي علاقات الدعوى أو النتيجة، ويشترط من المنظور الدلالي أن يرتبط بمحتوى المقدمات، ويمكن أن نميز في النص الحجاجي العربي بين وسائل المنطقية الدلالية التالية.
القياس المنطقي: القياس المنطقي بنية أساسية في كل خطاب حجاجي، ومن ثم يعيره الباحثون الاهتمام الأكبر في البيان الأول من برهان ابن وهب، وهو الاعتبار يذكر القياس في اللغة: التمثيل والتشبيه.
• والقياس المنطقي في النص.
« تربينا على احترام المعلمين، وتوقير العلماء، وجمال الصمت بحضرتهم، والإفادة منهم، والحوار الهادئ المستشرف لجديدهم، ودفعهم إلى إضافة مخزونهم المعرفي والحياتي، فامتدت قاماتنا بهم وما نزال نتعلم منهم وندعو لهم.
القياس هنا منطقي حيث بين الكاتب موقفه من علمائه، وهو موقف إيجابي، ومن ثم فإنه من المنطق أن يستفيد الكاتب من معلميه.
القياس المتدرج: القياس المتدرج شأنه شأن القياس المنطقي، شكل من أشكال تحديد العلاقات المنطقية الدلالية بين الأقوال وما تعبر عنه من قضايا، يعد القياس المتدرج امتداداً معقداً للتعليل القائم على القياس المنطقي، وذلك بأن تتصل بعض مجموعات القياس المنطقية ببعض حتى تؤدي إلى نتيجة هي المقدمة الكبرى لنتيجة أخرى لاحقة.
• القياس المتدرج في النص:
« حين تسيد اللبراليون، فدفعوا عن ساحاتهم، واندفعوا في خصوماتهم، وتجريد الآخر من حقه في مواقفه واستدعاء ما كتبه رموزهم ........ الخاسر من هذا هو الوطن.
بدأ الكاتب بالتدرج، 1- حين تسيد اللبراليون ، 2-فدافعوا عن ساحاتهم، 3- واندفعوا في خصوماتهم....... إلى أن وصل إلى النتيجة وهي خسارة الوطن.
وأيضاً نجد في « فقد مارسها الإسلاميون، حين أقصوا غيرهم، واستعدوا عليهم وظنوا بهم سواءً، وشوهوا سيرهم بمقالات وتآليف وخطب، انتشر معظمها في الثمانينات، والتسعينيات، وعادت الكرة إلى مرماهم منذ العقد الماضي.
بدأ الكاتب بالتدرج: 1- مارسها الإسلاميون،2- حين أقصوا غيرهم، 3- فدافعوا عن ساحاتهم ......... على أن يصل إلى النتيجة «وعادت الكرة إلى مرماهم منذ العقد الماضي».
ومن القياس المتدرج في النص: «ولو تأملنا لوعينا افتقادنا التحليل العميق المحايد، لكثير من المظاهر السلبية التي يعيشها المجتمع؛ لتأثرنا بالشخصنة، التي تنزل الناس حسب مواقفهم الخاصة من بعضهم، وقد المظاهر السلبية التي تسيء للجموع ، ويمتد ضررها إلى أمس الإنسان ويومه وغده.
1 - لو تأملنا 2 - لوعينا، 3- افتقادنا التحليل العميق..... 4- لتأثرنا بالشخصنة....... النتيجة «ويمتد ضررها إلى أمس الإنسان ويومه وغده».
القياس المضمر:
هو أحد أنواع القياس المنطقي، معيار القياس المنطقي أنه معيار محذوف المقدمة، وهي عادة المقدمة الكبرى.
القياس المضمر في النص:
• للإرهاب أن يهنأ مادام همنا الأول الاحتراب اللفظي الداخلي بين الكونين المتخاصمين، المنشغلين بوهم البحث عن أدوات الجريمة، وترك المجرم طليقاً، يهزأ من ضوضائنا ويعد نفسه لجرم جديد.
المقدمة الكبرى «مضمرة» «الإرهاب سلوك إجرامي لبث الرعب في النفوس».
المقدمة الصغرى «مضمرة» «الإرهاب لم يأتِ اعتباطاً، بل له أسباب عديدة، أهمها الاحتراب اللفظي».
النتيجة « ترك المجرم طليقاً يهزأ من ضوضائنا ويعد نفسه لجرم جديد».
الوسائل اللغوية :
يمكننا أن نميز بين عدد من البنى اللغوية، من أهمها بنية التكرير، بنية التوازي، بنية الازدواج أو التوازن.
بنية التكرير:
للتكرير نوعان: 1- تكرير على مستوى الشكل 2-وتكريرالمضمون.
• التكرير على مستوى الشكل يندرج تحته ثلاثة أنواع:
1 - تكرير المكرر بذاته، سواء أكان لفظاً مفرداً أم غير ذلك، في منطوق واحد أم غير ذلك.
2 - التكرير في هيئة عنصرين من مادة واحدة.
3- التكرير بإعادة الصياغة.
التكرير في النص:
« تربينا على احترام المعلمين وتوقير العلماء».
المعلمين والعلماء، نوعه: التكرير في هيئة عنصرين من مادة واحدة.
« مرحلية الفكر وتغير التفكير».
الفكر والتفكير، نوعه: التكرير في هيئة عنصرين من مادة واحدة.
• التكرير في المضمون يندرج تحته أربعة أنواع :
1- تكرير مفردتين متواليتين أو أكثر .
2- تكرير مفردتين في جملتين أو منطوقين متواليين.
3 - تكرير مفردتين في ثنائية .
4 - تكرير المضمون بين جملتين متواليتين.
ومما جاء في النص من تكرير في المضمون
«وبينهما المسافة الفاصلة بين المثقف والعامي، أو بين الكاتب الكبير والمغرد الصغير».
نوعه: تكرير المضمون في جملتين متواليتين.
بنية التوازي:
عرف هاليداي التوازي بأنه ربط بين عناصر متساوية في الحال، هناك عنصر سابق وعنصر آخر متصل به أو لاحق، كلٌّ من هذين العنصرين حر، أي له كيانه الوظيفي الكامل، ويميز هاليداي بين التوازي والتركيب، فالتركيب ربط بين عناصر غير متساوية الحالة، فهناك العنصر المتحكم وهو عنصر حر، والعنصر المتحكم فيه وهو غير حر.
التوازي في النص:
« كي تصفو الحياة لهم وحدهم وينعم الأحياء بهم لا سواهم».
علاقته: التمديد.
فالجملة الثانية» وينعم الأحياء بهم لا سواهم» امتداد للجملة الأولى « كي تصفو الحياة لهم وحدهم».
طريقته: الإطالة.
فقد مدت الجملة الثانية الجملة الأولى بعنصر جديد « ينعم الأحياء بهم»، بالإضافة إلى صفو الحياة لهم».
« أقصوا غيرهم واستعدوا عليهم وظنوا بهم سوءا وشوهوا سيرهم».
علاقته : التمديد.
طريقته الإطالة:
فقد مدت الجمل الثلاث المتتالية «استعدوا عليهم» «وظنوا بهم سوءاً» «وشوهوا سيرهم» الجملة الأولى» أقصوا غيرهم» بعناصر جديدة .
« هو ما نأسف له ونتمنى تبدله».
علاقته: التمديد.
طريقته: الإحكام؛ حيث إن الجملة الثانية « ونتمنى تبدله» حكمتها الجملة الأولى «هو ما نأسف له».
الخاتمة
قامت هذه الدراسة بمتابعة فكرة الاحتجاج في مقالة لـ د. إبراهيم التركي وقد قامت مقالته على الحجة العقلية التي ترد المعنى إلى التقرير والتحقيق ، كشفت الدراسة عن العوامل والروابط الحجاجية بالإضافة على وسائل الإقناع التي تجمع بين المعاني البلاغية والحجج العقلية، من خلال قرائتي للنصوص الأدبية وأنا في حيرة اختيار النص اكتشفت أن الاحتجاج ركن من أركان بلاغة العرب سواء شعراً أو نثراً، كما اكتشفت قدرة الاحتجاج على اختراع المعاني، استطعت بعد انتهائي من هذا البحث المتواضع التفريق بين الإقناع والإمتاع، فبعض النصوص قد تكون ممتعة لكن تفتقد الإقناع والعكس صحيح أيضاً، كذلك استنتجت أن التعليل عنصر مهم في الاحتجاج وهذا ما لاحظته في مقالة أستاذنا د. إبراهيم التركي، هذا اهم ماتوصلت إليه في بحثي هذا.
** ** **
المراجع
- صحيفة الجزيرة الثقافية، مقال الفرجة على الذات، 28 شوال، 1436هـ .
- الحجاج في اللغة أبو بكر العزاوي.
- النص الحجاجي العربي دراسة في وسائل الإقناع.