لا وجود للشمس ">
(1)
مد ساقيك ولا تخف.. تخيل ولو لمرة واحدة ان المكان لك وحدك، وان الوقت نهار حتى لو رأيت النجوم بعينيك تتألق وسط الظلام.
دع لجشعك ان يحلم بزهرية تحتضن جزءا من الطبيعة الخلابة، جزءا صغيرا جدا، كبضعة أغصان تعتليها زهور القوس قزح. مد يديك كما لو انك قد تحولت إلى طائر.. لتكن بحجمك الذي يوازي الحلم.. ان تحقق لك ذلك، ولو للحظات.. لا تفكر بالعودة أبدا.
(2)
يقال: إن صاحب المنجم قد رتب الأمر بما يتيح له التمتع حقا بالحياة، لديه نافذته الواسعة الحريرية الستائر، ولديه شمسه التي تعمل بأزرار مستوردة، صباحه المنتقى من أفخم الحدائق، أوقاته المختارة بعناية من أجمل بقع العالم.
عماله صنفوا في منجمه اللا متناهي الأبعاد وفق قدراتهم العقلية والجسدية ومواهبهم، لا أخطاء ترتكب، فهناك الحاسوب الذي يعطي تفاصيل تامة عن المهارات والقدرات.. فالجنس هنا غير مهم، أنثى أو ذكر، الكل يعمل في خدمة سقفه، ليظل مرتفعا فوق الجدران وأصحابه.
هنالك علاقات يترفع عن ذكرها حتى الحاسوب تحدث بين الأجناس المختلفة، وبين النساء والرجال، وبين أبناء العرق الواحد، أو اللون...الخ..، في النهاية تعاد صياغة المعادلات الحسابية بأسرع ما يمكن وخلال ثوان تتزن كل الصغائر لتخلق كبائرها الراسخة أبدا، قد تخرج بعض المعادلات عن سكك سيرها المعتاد فتنطلق صافرة الإنذار المرعبة، ليظهر جيش الـ.. من حيث لا يعلم أحد كي يتخذ إجراءاته، وهنا ليست من حاجة لإحصاء حالات الإغماء والوفيات الناجمة عن سماع صوت الصفارة وقبل وصول الجيش وأثناء وجوده وعند المغادرة أيضاً.
يوم ولدت أنا قيل لي ان أبي قد اقتيد نحو ثكنات هذا الجيش لأنه افتعل احتجاجا غبيا، ولم يعد أبدا.. فأدركت في سن مبكرة ألا جدوى من الاحتجاج فهو محكوم عليه بالنهاية سلفا، وعلمت أن الخروج من هنا مستحيل طالما لا نعلم أين نحن، لا خريطة لدينا، ولا فكرة عما هو خارج المكان الذي نولد ونموت فيه.
المستشفي القائم لأجلنا يعالج الكثير من الأمراض التي قد تضطرب لها شؤوننا، كما أنه يقرر أنواع الفحوصات الدورية، ويحيل حالات العصاب النفسي إلى ردهات العلاج المبتكر.
بضع حركات افتعلتها نبهت طاقم الرقابة إلى خلل جسدي أو نفسي قد حدث في منظومتي، مما دفع باللجنة الطبية إلى إحالتي لقسم العلاج المبتكر، وهو ما كنت أود زيارته.
ربطت يداي وساقاي وأنا ممدة على سرير مريح إلى أجهزة كثيرة، وجلس أكثر من امرأة ورجل طلبوا مني النطق ببعض المفردات المتداولة.. كنت أرى وجهي على الشاشة بين التجهم والسعادة والى جانبه تظهر أرقام لا تحصى تنتظم في بيانات.
في النهاية ذكروا لي المفردات التي أسعدتني ومعها أيضاً ما أغضبني وما أبكاني. المرحلة الثانية كانت تحت تخدير تام.. فلم اعرف ما حدث بالضبط، فأنا لم أجد جرحا أو خيوطا جراحية، غير إني شعرت ان قاموسي اللغوي قد تقلص كثيرا، وإني لم اعد أذكر إلا بعض الكلمات الضرورية لمواصلة الحياة.
يومها عرفت ان العلاج المبتكر هو أفضل مكان في المنجم كله، وعرفت أيضاً ان معظم من حولي قد دخلوه لمرات لا تحصى.. أنا لا أذكر لم دخلت، لكني على يقين الآن ان أهل القصور ليسوا بأسعد مني.. كلمات قليلة.. طلبات أقل.. عمل بعضلات ثور.. ونوم أشبه بالموت.. ونهار يتوهج بهجة.. ولا حاجة للشمس..
(3)
لم اعد أطيق رأسه المربع الشكل.. ليس لأنه مربع، بل لأنه لا يتخيل وجود الأشكال الأخرى للرؤوس كالمستديرة والمثلثة والمستطيلة، وأكثر ما يستفزه ان يكون الرأس مرنا وقابلا لتغيير شكل محيطه الخارجي الظاهر كما هي الأميبا.
هل أنا أتمرد لمجرد التمرد؟..
هل أنا الوحيدة التي تظن أنه على خطأ؟، وإن زياراته بين الحين والحين هي لأرى أن رأسه مختلف جدا؟، وأن الاختلاف الذي لا يد لي فيه هو من قادني إلى السجن ما أن أدركت بحواسي الأربعين أني هبطت الآن من عالم الموتى؟
كرهت مساطره وزواياه القائمة.. كرهت القوانين التي يظنها قاطعة تماماً.. متى بدأ ذلك؟؟.. لا أجد صعوبة في التذكر.. إنه في شهر مارس، وكان علي أن أرى وجهه ساخطا.. أول وجه أراه يحملق فيّ بغيظ.. أول وجه أراه على الإطلاق.. طفرة وراثية من عصر ما ولدت فيه.. ألقتني في زاوية من سجن غير مرئي..
كل ما حولي من مرايا مرنة تريني المخلوق الوحيد المتواجد في زنزانتي برأس بيضاوي مغضوب عليه أبدا.. الحياة التي وهبتني شهيقها.. جعلتني أتذوق موتي دون قياسات هندسية منطقية.. أو تفسير لمعنى سيادة الزوايا القائمة.. على بيضاوية رأسي..!
ماجدة الغضبان