د. حسن بن فهد الهويمل
من أفدح الفواجع أن تظل طائفةٌ من النخب، والمتنخوبين العرب، المتصدرين لوسائل الإعلام العربي، والمقترفين خطيئة تشكيل الوعي الجمعي لِأمَّتهم، بخطل الرأي مُخَدَّرينَ بنزيف الإعلام العالمي، وزيفه.
... تحيل إليه، وتسترفده، وتقبل مقولاته، كما لو كانت، تنزيلاً من التنزيل. وتتولى التزكية له، والدفاع عنه، واستحضاره، كشاهد من الأهل.
لا أظن عاقلاً يتجرع غصص المرارات من واقع أمته، ثم يستبعد المؤامرة، أوالمغامرة، أو الغفلة المعتقة.
[الولايات المتحدة الأمريكية]، التي ظلت ردحاً من الزمن دولة المبادئ، والمواقف النبيلة، والحياد الإيجابي، جُرَّت قدمُها، وغُمست في وحل التآمر، والتدخلات المسيئة للعدالة، والحرية، والنوازع الإنسانية.
بعض المتنفذين المتذيلين حين يكتبون، أو حين يتحدثون، ينتزعون الأحداث من سياقاتها، ويرتهنون أنفسهم للَّحظات المعاشة. وهذا ابتسار يُقَلِّبُ للمنكوبين الأمور.
ولو أنهم أخذوا الأحداث بسياقاتها، والممهدات لها، واسترفدوا قواعد اللعب السياسية، لَمَا كان حديثهم مفترى. تهيم به الأفئدة الحائرة. ثم لايكون إلا سراباً بقيعة، لا يُظلُّ من الوهج، وإنما يُضلُّ عن سواء السبيل. ولَمَا كان وعي الأمة ضريعاً، مهزوزاً، ومُتَسطحاً على الأحداث.
الصراع بكل تنوعاته السياسية، والاقتصادية، والدينية، والعرقية، والإقليمية، والمصلحية يُدار من وراء [الكواليس] بأصابع ماهرة، ماكرة. لايبدو للدهماء، إلا ظاهرها الذي فيه الرحمة، فيما يخفى باطنها الذي من قِبَله العذاب. بحيث لاينبئ عن ذاته، ولايدل على بواطنه، ومصادره، ومقاصده.
والمخيف أن المستبقين للتناول الإعلامي، كـ(العجوز الشهربة)، التي [ترضى من اللحم بعظم الرقبة].
لو امتلك أولئك مجسَّات، ومقاطع، وتوفروا على عَيِّنات للظواهر، وضربوا المتناقض من الأقوال ببعضها، واجتهدوا في تحليلها، عبر أجهزتهم الفكرية المتحررة من التبعية، لتبدى لهم المكر، والكيد، والمؤامرات، والمغامرات، والغزو، واللعب المُجْهِدة، التي تزكم الأنوف، وتغثي النفوس.
فواقع الأمة العربية جَريمةُ أطرافٍ متعددة الأهداف، متنوعة المقاصد. وحلبة الصراعُ فيها رباعية الأطراف، كلما أُنهِك مصارع، خلفه آخر. وذات عمق زمني، تتجاوز الأطراف المغرر بهم، مِمَّنْ يمثلون ذنب الأفعى. إنها جرعات محكمة التقدير، والتدبير، كلما خبت نار، زِيْد سعيرها.
إن أمتنا، وهي تعيش أحلك الظروف، وأخطر المواقف. حتى لكأنَّها في جفن الردى، وهو متيقظ، متحفز. والمتآمرون عليها يَمُرُّون بها، وليسوا مكلومين، ولا مهزومين. ووجهها ليس وَضَّاحاً، وثغرها غير باسم. يردد إعلامها ما يتهمها به أعداؤها، وتردد ببلاهة معتقة ما يحكمون به عليها.
سيوفها تُزهق أرواح أبنائها، وأقلامها تُجَرِّح عدالتها، وألسنتها تُخَوِّنُ المؤتمنين فيها. تستدبر القضايا، وتستعدي الأعداء.
مِنَّا من يقدح بعروبتنا، حتى لكأنها عار التاريخ، ومِنَّا من يتهم إسلامنا، حتى لكأنه سُبَّةُ الدهر.
وليس من بين أمتنا من ينتبذ من قومه مكاناً قصياً، مُخلِّصاً نفسه من وضر التبعية، وملتمساً الحق، بعيداً عن روح الهزيمة، والانكسار.
نحن لا ننكر ما عليه أمتنا من ضعف، وتناحر، وتفكك. وما هي فيه من وهن، وحزن.
ولكن الخلوص من هذا الواقع، لا يتم بهذا الخطاب التناحري التخذيلي، التنصلي الممعن في الإحباط والتيئيس، وتزكية النفس.
لقد أطلنا الحديث عن المتصدرين للإعلام، وماكان بودنا أن نكون مرتهنين لردود الأفعال المتشنجة.
ولو أننا استدعينا المتهافتين على الزعامات السياسية الزائفة، الذين يبيعون في سبيل كراسيها كل مايملكون من عقيدة، ووطن، وانتماء، لراعنا ما نرى، ونسمع.
[المالكي] على سبيل المثال طريدة غبية، فغرت فاها لأكل الطعم، ولكن الفخ أطبق عليها قبل أن يطبق الفم المتلهف على طُعْمه. ولما يزل رهانها الغبي على الطعم السرابي. وظنها السَيئ الذي أرداها، أن [دول الخليج] جزء من هذا الطعم الأخاذ.
لقد ظل كما [الاسطوانة] المشروخة، تدور حول نفسها، وتظن أن موعد الظفر بالطعم قريب.
لقد باع الغبي وطنه، ودنَّس قوميته، وخان أمته. ولمَّا نجا ببدنه، أعيد، ليكون لعراق الحضارة، والقومية عدواً، وحَزناً.
ولأنه ببغاء، يُلقن الرسائل المغلفة بالتآمر الدنئ، فقد ظلت تعليقاته تدور حول [المملكة العربية السعودية].
لقد كان [علقمياً] أغبى من سلفه، حين طلب من دول العالم الهيمنة على المملكة، وانتزاع سيادتها.
وهو الأذل، حين وصف دعوة المملكة للأمة الإسلامية لمواجهة الارهاب من خلال تكتل عسكري بالحركة المشبوهة. وفاته إجماع العالم العربي، والإسلامي، ومباركة العالم الغربي لهذه الدعوة.
و[العراق] اليوم تحكمه حَفْنَةٌ من المتنكرين لقوميتهم، ووطنيتهم. وأطماع الطائفية، والاقليمية تبدو بكل بشاعتها على مسرح الأحداث.
وإذ ندين [الأكراد] و[الشيعة المتموجسة] و[المجوس] ومتطرفي [السنة] بهذه الفوضى الهدامة، فإننا لن نغض الطرف عن ممارسات [أمريكا] غير السوية، ولن نغض الطرف عن تجاوزات [حزب البعث] وقيادته التي غامرت في حروبها، وأمعنت في تسلطها، وجازفت في تعدياتها، وخانت قوميتها.
العراق شبكة من المقترفات المتداخلة، والممتدة مع الزمن، منذ ثورة [عبدالكريم قاسم].
لقد جُيِّشت العواطف الهوجاء، وفاض معين المشاهد كلها بلعن الملكية، والرجعية، والعمالة. وسايرت الدهماء مثل هذه الخطابات التحريضية الغوغائية. واستأثر الانقلابيون العسكريون بكل المحامد، وانتزعوا لأنفسهم أفضل الصفات، وأجمل الألقاب، ولمَّا تزل الشعوب تتجرع مرارات الأقاويل الزائفة.
ولكي نهتدي إلى سواء السبيل، لابد من وضع اليد على بدايات الخيانات، والمؤامرات، أو اتخاذ منهج [عفا الله عما سلف]. ورسم خارطة طريق لا تلتفت إلى الوراء.
لقد خَلَّفً [الربيع العربي] مآسي، لايمكن تصورها، من قتل، وتشريد، وهدم، وهدر لكل المكتسبات.
ووجدت الطائفية المأزومة، فرصة التصفية للرموز العلمية، والسياسية, وتغيير التركيبة السكانية. وما من أقلّيَّةٍ نازعت الأمر أهله إلا أضرَّت، واضمحلت.
كما وجدت الصهيونية الحاقدة فرصة لفرض الأمر الواقع. فيما ظل إعلامنا العربي ينهش في جسم الأمة. ويزيد في تخذيلها. ويمعن في النيل من رموزها، والتقليل من منجزها.
لقد آن الأوان لصياغة خطاب توافقي، تصالحي، بعيد عن العنتريات، والاستفزازات، والمناكفات الشخصية، يُهَمِّش مآسي الماضي، ويرفع كافة الملفات الساخنة، حتى يستوي زرع الأمة على سوقه، وحتى تكون قادرة على فتح الملفات، ومراجعتها، دون تدخل خارجي، أو تفكك داخلي.
إن لغة التخوين، وأسلوب التنازع، ومبادرة الحساب، والعقاب، مدعاة لتدخل الأعداء، وإغراء المهمشين، والمخوَّنين، والموالين للموقوفين، والمطاردين على حمل السلاح، والمواجهة بالمثل.
لقد مارس [المنافقون] في المجتمع المدني أبشع صور الخيانة، والغدر، حتى قال قائلهم، كما حكى الله عنهم:- {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}.
ومع ذلك وسعهم صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، واحتماله. حيث فوَّت على المتربصين، والمحرضين من [بني قريظة] و[بني قينقاع] و[بني النضير] فرصة تفكيك المجتمع الإسلامي الناشئ.
إن الحكمة تعني البراعة في إنزال الحكم على الواقعة، والتمييز بين المباح الممكن، وغير الممكن. وليست في ممارسة القوة في كل المواقف.
فيوض التجارب تحتم على من استهواه التَّصدر لمعالي الأمور، أن يتعرف على نفسه. وعلى إمكانيات عدوه.
وهل من المصلحة المواجهة، أو المصالحة، وأي الخيارات أهدى، وأجدى؟
إن المغامرات الطائشة تُفَوِّت على الأمة مكتسباتها، وتمنح العدو فرصة الإيغال في الإيذاء.
إدارة الأزمات أهم من الامكانيات. والمجربون من يختارون المكان، والزمان، ونوع المواجهة. ولا يُستدرجون من حيث لا يعلمون.
الحِجَاج وحده، والقوة وحدها، وسائل. وحسن الإدارة للمواجهة، أوالتفاوض رأس كل نجاح.
واقع الأمة العربية لايمكن أن يكون إفراز الحكمة، والتجربة، والحلم، والأناة، وحسن الإدارة للأزمات. واقع الأمة يفتقر إلى ذلك كله، ولايتوفر على شيء من ذلك كله.
وإذا كنا متفقين، أو مسلّمين اضطراراً لهذا الواقع، فإن من أوجب الواجبات أن نعترف بأن هناك مؤامرات، ومغامرات، وغفلة معتقة، أذهبت ريح الأمة.
وأول خطوات الحل أن تعرف من أنت. وأن تعترف بما أنت عليه. فالمكابرة لاتزيد المشاكل إلا تعقيداً، وتصعيداً.
الأمة العربية ممثلة، بأهل الحل والعقد مطالبة بمواجهة الذات قبل مواجهة الآخر، عبر لقاءات صريحة، تحتمل آلام الاعتراف بالحقائق، وبدء رحلة العودة، وإنهاء زمن التيه.
الزعماء المَوْقِفيّون من يواجهون شعوبهم بالحقائق، وإن كانت مرة. ويجدون الشجاعة في الترجل من سدة الحكم، متى كان في ذلك إبقاء على رسيس الحياة.
لقد كسب [زين العابدين] و[حسني مبارك] حسن التصرف، في اللحظات الأخيرة وخسره [القذافي] و[الأسد] و[علي عبدالله صالح]. مع أن العاقبة للشعب المغلوب على أمره. طال الزمن، أو قصر.