د. حسن بن فهد الهويمل
خرجت مع لفيف من الأصدقاء، ننظر في آثار نعم الله على الضراب, والآكام، والأودية، والشعاب. ورحلة خلوية كهذه، تفصلني تماماً عن رتابة الحياة, وصخب ساستها. وإن بقي القلب معلقاً فيما يشغله. حتى لكأنَّه قلب العاشق الذي يقول:
وَتَلفَّتَتْ عَيْنِي فَمُذْ خَفِيَتْ
عَنْها الطُّلولُ تَلَفَّتَ القَلْبُ
هذه المبارحة شغلتنا مباهجُها عما يدور في مشاهدنا العربية المسكونة بالشقاق، والنفاق، وسوء الإدارة للاختناق.
فما استمعت أثناء الرحلة إلى متحدث في السياسة، وما قرأت لكاتب عن سائر الأحداث. وكنت أظن أن الإرجاءَ يخفف من حدة الواقع، ويدفع بالقلق إلى حين. غير أن ما أرجأناه في سفرنا، سامنا سوء العذاب في حضورنا.
واحتباس الأحداث، كحبس الماء بالمصدات الضعيفة، يتجمع من ورائها حتى يعلو ذراها، ثم يجرفها، ثم لا يكون عاصم.
وذلك ما كان، بعدما عُدنْا من سفرنا. تغافلنا عن كل شيء، وتشاغلنا عن كل شيء.
ولكن المنسي، والمشتغل عنه ظل يتربص بنا، حتى إذا فاجأنا، لم يدع لنا فرصة الفرز، أو التأمل. وكأننا تناسينا مقولة:- (لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد).
أوضاع أمتنا لا تسر، ومستقبلها لا يبشر بخير. فهي من السيء إلى الأسوأ. ومن قلة المشكلات إلى الكثرة. والناس يكادون يُجْمِعون على أن وراء الأكمة ما وراءها. فتصاعد المشكلات، واحتدام الفتن، وخلط الأوراق تَتِمُّ، وكأن وراءها مدبر ماكر، يرسلها العراك.
إذ كلما فوجئت الأمة بفاجعة، تُذْهِل المرضعات عما يرضعن، جاءت فواجع أخرى، ترقق ما سلف. بل تنسي ويلات ما فات.
والدول العربية في دوامة الفتن منشقة على نفسها، لا يجمعها رأي، ولا توحدها كلمة. تنقض غزلها طائعة، أو مكرهة من بعد قوة أنكاثا.
لعلنا نتذكر البدايات البسيطة، التي لم نتوقع اتساع رقعتها، ولا عمق تأثيرها، ومن ثم نحقرها، ونستخف بها، ونظنها عارضاً زائلاً.
وما كان في حسابنا أن الحرائق من مستصغر الشرر. وما كنا نتوقع أن قطع دابر البدايات، يخلص الأمة من أزمات قاتلة.
بدايةُ (الربيع العربي)، مواطنٌ بسيط، في عمل أبسط، أرهقته الحياة، فأشعل النار في جسده. وما كنا ندري أن هذا الجسد الضعيف المهمل المستخف به، يمثل جسد الأمة من المحيط إلى الخليج. وأن هذا اللهبَ المرصود بالصوت، والصورة سيكون حريقاً، لا تحيط به الصور، ولا يتخيله المتابع.
لقد امتدت النار من ذلك الجسد المغمور, إلى الجسد المعمور، جسد الأمة، بحيثُ أتت ناره على المقيم، والظاعن، والبريء، والمتهم. وكشفت تلك النار المحدودة عن هشاشة الوضع العربي.
ما غفلنا عنه (خلايا) نائمة, و(أعداء) متربصين، لا يفرطون بأي فرصة تحقق أطماعهم، وتفتح شهيتهم للتدمير المنظم.
لو كانت أمتنا واعية مُدْركة لِمَا يدور حَوْلها، ما جُرَّت قدمُها،ولَمَا ترمَّدت قلاعها الورقية. بدأت الفتنة في (تونس)، ولم يعرها أحدٌ أيَّ اهتمام، بل سايرها الأكثرون، وأحسوا أنها تجمجم عما في نفوسهم.
وبقدر هتافاتهم للانقلابات العسكرية، هتفوا للثورات الغوغائية، وبادرها الإعلام العربي كظاهرة صوتية فارغة.
في البداية حاولت (الحكومة التونسية) احتواء الموقف بشتى الوسائل، ولكن تلاحق الأحداث فوت فرص الحلول السلمية.
ومن (تونس) بدأت الثورات الشعبية، ودخلت الأمة العربية في الفوضى الموعود بها. ووجد أعداؤنا أفضل الفرص للإيغال في الشر المستطير
وأخطر شيء على الشعوب (الفراغ الدستوري) الذي حذر منه الفكر السياسي الإسلامي. ذلك أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
لقد اختل الأمن، وتعطلت المصالح، وصَرَفَت الدولُ كلَّ جهودها إلى الجبهات الداخلية المنهارة، معلقة مشاريع التنمية.
فتصدع الجبهات الداخلية يُلْهي الدول عن كل مكرمة، ويشغلها عن التفكير في مصالح الشعوب، وذلك بعض ما تعانيه دول المنطقة.
لا أريد أن أتعقب المراحل التي مرت بها الأمة، ولا أريد تقصي الأحداث التي أردت الوطن العربي في مهاوي الفتن، فذلك معروف، يراه المتابع رأي العين.
ولكنني أتساءل، وألح في التساؤل: إلى متى يظل وطننا العربي مسرحاً للفتن، تدار أحداثه من خارج أرضه. وتقضى شؤونه في غيابه. ولا يؤبه به عند حضوره؟
لقد كنا نتطلع إلى لحظة مراجعة. تنهي النزيف. وتوقف التداعيات. وتعيد الأمة إلى رشدها. وتمكنها من حقها في تصريف أمورها. وتقطع دابر التدخلات الخارجية، التي تمدها بالغي، وتدفع بها إلى حمامات الدم.
الأمة العربية بكل ما تعج به من فوضى مدمرة، ليست بدعاً في السياق العالمي. غير أنها حين لا تستفيد مما يجري على أرضها، تكون نشزاً في سياق الأحداث التاريخية.
ما حدث في (أوروبا) في العصور الوسطى أضعاف ما يحدث في مشرقنا. الامتحان الأصعب ماذا بعد التدمير، والقتل. هل تملك أمتنا رسم خارطتها، وتنسى مآسيها، مثلما نسيت (أوروبا)؟
(روسيا) كانت لاعباً متقنعاً، ولكن فداحة اللعبة، واقتراب مشاريعها من الفشل، جعلتها تمزق الأقنعة، وتكشر عن أنيابها.
هذا التدخل غير الرشيد، وغير السديد، سيزيد من خلط الأوراق، وتصعيد الأحداث، وتغيير مسارها إلى الأسوأ. إن لم تكن العملية مقايضة دولية. فكم هو الفرق بين المقايضة وجرِّ الَقَدمِ. ودولةٌ بِوَزْن (روسيا) حين تتخذ هذا القرار الخطير في ذروة التصعيد (الإيراني) وفشل الرهانات في (سوريا) تعرض نفسها لمزيد من الفشل، وتعيد شبح (أفغانستان).
وهي وإن كانت على موعد مع الفشل، سترهق المنطقة العربية صعوداً، وستزيد من خلط الأوراق، وتعميق المآسي. على أن كل المتورطين سيدفعون ثمناً باهظاً.
وفي ظل التصعيد، والإمعان في خلط الأوراق، تأتي الأحداث التي جَرَّت قدم (تركيا)، وفرضت عليها (أجندة) لم تكن في الحسبان، فإسقاط الطائرة (الروسية)، ودخولها الأراضي (العراقية)، وتصعيد الأحداث الحدودية، كل ذلك فرض أوضاعاً زادت في التعقيد، والتصعيد. وليست (مصر) منها ببعيد.
كل تلك المفاجآت، فوتت فرص التنبؤات، واتخاذ القرارات الاحترازية، فالأمة العربية تفاجأ كل يوم بما لا يدور في خلدها، ولا في حسبانها.
ومثل هذه المفاجآت تخلط الأوراق، وتضعف الآمال وتصعد المشكلات. وما من راصد متسطح، إلا وله رهاناته الواهمة، وحساباته الخاسرة. ذلك أن أوضاع الأمة العربية لا تنبثق من أرضها، ولا تدار بأيدي أهلها، وإنما تُفْرضُ عليها، وتُدبَّر لها. وعليها في ظل هذه الفوقية أن تعي واقعها، وأن تقرأ أحداثها بعيداً عن الاهتياجات العاطفية.
لقد ضاع (العراق) بكل ما ينطوي عليه من قوة حسية، ومعنوية، وبكل ما يمتلكه من تاريخ مجيد.
وضاعت (سوريا)، وتفكك (لبنان)، وتشتت شمل (اليمن), وتفرقت كلمة (الليبيين)، وتمزق (السودان). وأصبحت تلك الأراضي مجالاً خصباً للإرهاب. لتضييق دائرة الوفاق، ويستفحل الشقاق. وشد عضدَ ذلك نُخَبٌ فكرية، تنعق بما يعمق الخلاف، ويذكي أوار العداوة، والبغضاء، ويفكك لحمة الجبهات الداخلية.
إنه واقع مرير، لا مبالغة فيه، ولا تشاؤم. وهل بَعْد ممارسة القتل المرصود بالصوت، والصورة بين الأقارب من مآسي؟. إنها الوحشية المخيفة، والجرم المشهود.
أحدث صيحات الفتن (الإرهاب أولاً، أو الأسد). إنها معادلة أصعب، لَمَّا خَبَتْ نارُ الفتنة، زادتها سعيراً.
دول الخليج العربي على أعتاب تلك الفتن، وزعماؤها يختلفون في تصور حَجْمِها. وقد يختلفون في أسلوب المواجهة. وواجبهم التسامي فوق خلافاتهم العارضة، فما عاد في الوقت متسع لتقعير الرؤية, أو التردد في اتخاذ القرار.
أمن الخليج، واستقراره هدف رئيس. فالخليج بما هو عليه من أمن واستقرار، وأعماق متعددة يحول دون نفاذ كثير من اللعب، والمصالح، والأطماع التوسعية.
واختراق مثمناتهم مطلب أولي للعابثين بأمن المنطقة، لتوهين عزماتهم، وشغلهم عن معالي الأمور. إن على زعماء الخليج من خلال مؤتمراتهم, ولقاءاتهم احتواء الأزمات، وفك الاختناقات، والحيلولة دون نفاذ اللعب، والمؤامرات، وتفادي تصعيد الخلاف مع أي تكتل.
لقد سيئت وجوه الأعداء مما يمتلكه الخليجيون من قدرات، ومميزات تكشف عوارهم عند شعوبهم. والأعداء حين يزجون الخليج في أتون الفتن، يفرغون لغواياتهم.
لقد أقبلت الفتن، وهي أكثر غموضاً، ومخادعة، ووقع في أتونها من وقع، وعصم الله من عصم. وهي الآن في أقصى حالات تبرجها، وتعريها، وعلينا تفويت الفرصة على من يستدرجوننا من حيث نعلم، أو لا نعلم
فالشر في لحظاته الأخيرة، وحين ننجوا من دخنه، نكون قد فوتنا الفرص الذهبية على الأعداء المتربصين، ونكون السبب المبارك في إقالة العثرات التي تردت فيها أمتنا، بسبب أخطاء التقدير، وسوء التدبير.
والأمة العربية تَعْقد آمالها على زعماء الخليج، وشعوبه، ليكونوا آسين، ومواسين، ومتوجعين.