د. حسن بن فهد الهويمل
لكل دولة سياستها الداخلية، والخارجية، التي تمثل الكيان بوصفه شخصية اعتبارية، وبوصفه مُجَسِّداً للعقل الجَمْعِي.
هذه السياسة تحمل جيناتها و[أجندتها]، وتواكب ما حولها من سياسات موافقة، أو مخالفة. وبقدر مرونتها، ومسايرتها، أو مخالفتها المتوازنة، تكون سلامتها. وهذه السمة حق مشروع، بل بدونها تكون الدولة ريشةً في مهب الريح.
من الطبيعي مراجعة السمة السياسية بين الحين، والآخر، والتحلي بمرونة التغيير، والتكيف مع المتغيرات العالمية المحيطة. فذلك من باب المصانعة، المتفادية للتضريس بالأنياب، والوطء بالمناسم.
فليس من مصلحة أي دولة أن تكون نشراً في السياق العالمي، أو تكون صدامية، تشغل نفسها بالمناكفات. هناك متغير حتمي يفرض نفسه، ويستدرج الدولة من حيث تريد، أو لا تريد، ومتغير دون ذلك، ولكل حراك ضوابطه.
ومنشأ الضعف، أو الارتباك على الأقل أن تفاجأ الدولة بالمتغيرات المحيطة بها، وهي غافلة عنها. أو منشغلة بما دونها. والأسوأ من هذا حين يكون من مصلحة الأقوى أن تغير في ترتيب أولوياتك، أو أن ترجئ متغيراتك الحتمية. فقدر عالمنا الثالثي أنه كمهجي [الحطيئة] [طاعم/ كاسي].
في النهاية لا أحد يملك الاستقلال المطلق، ولا أحد يملك اتخاذ أي قرار مصيري في معزل عن السياق العالمي. والسيادة المقدسة، لا تعني الاستقلال التام. العالم كله متشابك، مؤثر، ومتأثر. والناس [وإن لم يشعروا بعضهم لبعض خدم] هناك مَحْوٌ، وإثبات، وتبقى السمةُ الأصل متمثلة بالعروبة، والإسلام على المستوى العربي.
وتبقى السياسة كما [القَدَر] تراوح بين التخيير، والتسيير. والمحظوظ من لا تلجئه المفاجآت إلى التكسير، والتخلي عن بعض الثوابت. والأذكياء من ينحنون للريح، ويتفادون اقتلاعها لشيء من مثمناتهم، وكم من مُسَالِمٍ يردد بمرارة:
[لَمْ أكُنْ مِنْ جُنَاتِها عَلِمَ اللهُ ... ولكنَّنِي فِي حَرِّها اليومَ صَالي]
المجتمع المدَني شبكةٌ معقدة من المؤسسات. وكل مؤسسة تَمُدُّ بصله إلى السمة الرئيسة للدولة. بمعنى أن كل مسؤول لا يملك الاستقلالية في التخطيط، والأداء، وترتيب الأولويات.
لا أريد استدعاء السلطات الثلاث، ومهماتها، فذلك حاضر الذهن النخبوي. مكمن الخطورة أن يكون لكل مسؤول هَمُّه الذاتي، والأخطر من كل ذلك تفاوت النسق الثقافي في المجتمع الواحد، إغراء المسؤول ليكون مرتهناً لنسق معين، ينازع ما سواه، فمثل ذلك يؤدي إلى الانفلات من الفلك العام، والتغريد خارج السرب.
ومن أخطر عوامل السقوط للدول تناحر مكوناتها السكانية، وتناقض أنساقها الثقافية.
الإنسانُ المسؤول ذاتٌ تحكمه غرائز، وشهوات، وأهواء، وانتماءات. وهو في الوقت نفسه مسؤول تحكمه سياسة عليا، لها توجهات، ومصالح، وقيم، ومبادئ، تمخضت عنها شعبُ الخبراء، ودوائرُ المستشارين، وخرائط الطريق.
والمسؤول حين يكون خارج المسؤولية يكون نطاق تحركه محدوداً، وحريته أوسع، وبإمكانه ترتيب أولوياته، واهتماماته بحرية تامة. أما حين تناط به المسؤولية الأوسع، فإن لها أولوياتها، واهتماماتها، التي قد لا تتفق مع ميوله الذاتية. وبالتالي فليس من حقه أن يتيح فرصة التنازع بين ميوله الذاتية، ومتطلبات المسؤولية، بكل شموليتها، وتفاوت المنتفعين منها.
من المسؤولين من لا يفرق بين الموقعين، موقع الذات، وموقع المسؤولية.
ومن الناس - أيضاً- من يتصور المسؤول من خلال ممارساته الذاتية. قبل أن تناط به المسؤولية. بحيث لا تتاح له فرصة لإبداء براعته في التكيف مع أنساق الجماعة، وسياقاتها.
إن علينا حين نفاجأ بإنسان نختلف معه في رؤيته الذاتية، أن نرقب حسن إدارته للمسؤولية، ومدى قدرته على الخلوص من هيمنة المسلمات الذاتية عليه، وعلى ممارسته للمسؤولية.
الرأي العام قد يَنِدُّ منه إقصائيون، استعدائيون، يحاسبون الآخر فيما هم واقعون فيه من فرادة.
إن أخطر سمة نفسية [الاستقطاب حول الذات]، والمغامرة في إدارة الآخر في فلكها، ومحاسبته على ضوء قناعاتها. هذه الخصلة الذميمة تمتد مع البعض، فيكون حجر عثرة لمسيرة الأمة.
العالم المعاصر جَسَّد هذه السمة في بعض مراحل حياته. فمصطلح [الدكتاتورية] من ظواهر السياسة العالمية. لقد تمخضت عن [النازية] و[الفاشية].
ما أود التعويل عليه في تقويم الآخر، ومحاسبته النتائج المترتبة على ممارسته لمسؤوليته. فاستقرار الأوضاع، والتريث في تقحم المآزق، والخلوص من ظواهر الفتن، مؤشر نجاح، لا يحتاج إلى مزيد من التوثيق القولي.
المجتمع الدولي لا يخلو من هذه النوعيات الاستقطابية، فعلى المستوى السياسي نجد نماذج شاذة، ومسيئة لذاتها، ولقبيلها.
سأضرب مثلاً غير عربي، وغير إسلامي، يمثل [الاستقطاب حول الذات] بأبشع صورة، والخروج عن منهج الدولة التوافقي التصالحي.
[فرنسا] - على سبيل المثال - دولة تحسن التصرف إزاء النوازل السياسية في كثير من أحوالها، وهي قد فهمت هذا المنهج التصالحي من خلال إخفاقات سودت صفحاتها، وكادت تقصيها عن المشهد السياسي العالمي.
[مارين لوبان] امرأة تفيض أحشاؤها بالأحقاد، والضغائن، والعنصرية المقيتة، ضد كل عربي، أو مسلم. وقد ورثت الشذوذ الأخلاقي صاغراً عن صاغر. وهي إذ تتصدر حزب [الجبهة الوطنية] فإن عادة الأحزاب أن تمثل العقل الجمعي، لا الحقد الفردي، غير أن تلك الآثمة بكل المقاييس ظلت تحمل سماتها الشخصية الشاذة، وتحاول إكراه العقل الجمعي على الانصياع لرؤيتها العنصرية، والدَّوران في فلكها.
ذلك بعض ما قاله الأستاذ خالد المالك رئيس التحرير في مقاله التذمري النقدي [النازية الجديدة] [الاثنين، والثلاثاء 2-3-3-1437هـ].
وليس ببعيد عنها [ترامب] أحد المرشحين للرئاسة الأمريكية، والذي لا يملك أي مقوم أخلاقي، أو معرفي لقيادة أمريكا في أحلك ظروفها. و[ترامب] بهذه الأخلاقيات المسفة قد يجني على حزبه، وعلى أمته، لو جازفت في اختياره.
لقد صُدِم الشعب الأمريكي بكل مكوناته الحزبية، والقومية، والدينية، والسياسية، وما فتئ هذا الصقيع يجر دولة بحجم الولايات المتحدة، لتدور في فلكه الذاتي السقيم.
هذان مثلان صارخان لجرجرة السمات الذاتية المنحطة، في دولتين تحتلان ذروة [الديمقراطية] و[الليبرالية]. وهما دولتان غير عربيتين، وغير إسلاميتين.
ولعل مثل هذه الظواهر الشاذة تربط على قلوب المشمئزين من بعض أبناء جلدتهم.
ولعل الإيمان بِنَقْصِ المنجز الإنساني مهما توفرت له المعارف، والأخلاق يربط على قلوب الخجلين من أوضاع أمتهم.
إن علينا، ونحن نرى، ونسمع [لوبان]، و[ترامب] أن نوطن أنفسنا، فكم بين ظهراني أمتنا العربية من مثل هذا الصنف الذي يقود أمته ليوردها الفتن {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}.
أما ما طفا على لساني هذا الوغد، وتلك الوغدة فبعض ما تضمره حثالات العالم:- {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}.
ليس شرطاً أن تكون سمة الدولة حميدة، ومريحة، وقادرة على المصانعة، وامتصاص الاحتقانات، وحفظ التوازن بين كل مكونات الدولة، ومكونات الدول المجاورة.
فبعض الدول تظل ثائرة، مثيرة. يدها على الزناد، وصوتها مهيأ للعناد، تؤذي نفسها، وتذل قومها، وتشقي من حولها. ولا تكون لها سمةُ تعامل بالحسنى، ولا يكون لها طريق محدد، يُمَكِّن المتأثرَ للمواكبة عليه.
فبعض الدول تحولت من دولة مدنية إلى دولة ثورية، وظلت كما هي في عسكرة النفس، والزعيق الفارغ، والمغامرات الهوجاء.
وحين نبدي استياءنا من بعض الشخصيات السياسية، التي أفسدت الأنساق، واضطرب معها السياق، نجد غير بعيد كلَّ الانقلابيين العسكريين، الذين قدموا أنفسهم كمصلحين، وزعماء. وتوفروا على إعلام قوي، ومرتزقة مقتدرين، فضاعوا، وأضاعوا، وما زادوا قومهم إلا تتبيباً.
لو ضربت الأمثال بما مر على أمتنا العربية من استبداد، واستعباد، وإكراه، لأصبح كل زعيم أمةً واحدة، لأنه يضع نفسه مُشَرِّعاً، وقدوة، وقائماً بالأمر كله. فهو الآمر الناهي، ولا أحد سواه.
وقراءة التاريخ السياسي العربي الحديث، يزكم الأنوف، ويغثي النفوس، ويكشف عن تفاهات لا يتصورها العقل البشري. ذلك أن أزمته أزمة حكام، وليست أزمة شعوب. والنادر يكرس القاعدة.
ومزبلة التاريخ التي تفيض بالمهازل، والمتفرعنين، لم يتعظ بها إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، ولم يُعِد قراءتها إلا النادر من المتابعين، ومن ثم فالحاضر في معزل عما أردى أمته وأحلها دار البوار.
الفردية، وفرض المذهبية الضيقة، وإكراه الناس على رؤية فجة، أذهبت الريح، وأوهنت القوى، وحملت العقلاء، والمجربين على التسلل لواذاً للنجاة، ولو بالأبدان.
إن احتواء الأطياف، والتوفيق بين وجهات النظر، وتكافؤ الفرص، وتداول السلطات مؤشر عبقرية، وعنوان استقامة، وسبيل نجاح. وقليل من القادة من يذيب ذاته في أمته، بحيث يكون روحها النابضة، المختبئة في جسدها الماثل للعيان.
ولك أن تقول مثل ذلك عن بعض المسؤولين الذين يُكْرهون الناس على مرادهم. فالأمة القوية تتسع لأكثر من طيف، وتكفل الحرية، وتكافؤ الفرص، وتداول السلطة لكل المكونات، دون إضرار، أو أثرة. والفرد مهما أوتي من قوة، لا يمكن أن يستوعب أطياف أمته.
والأمة القوية بسياستها، واقتصادها، وإنسانها، ومبادئها تمثل صخرة الوادي إذا ما زوحمت. فكل من تصور احتواءها تشظى على صمودها، وصلابتها.
من هنا لابد لكل مسؤول أن يتصور نفسه لبنة في كيان أمته. فهو مكمل، وليس مستوعباً، ولبنة وليس كياناً.
بهذا تسير القافلة آمنة مطمئنة، تسيل بأعناق مطيها الأباطح.