د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
ثانياً - تخصيص خدمات الرعاية الصحية الثانوية (المستشفيات) :
في هذا الجزء الذي يتناول موضوع التخصيص على مستوى الرعاية الصحية الثانوية (المستشفيات) ينبغي التأكيد على أن طبيب الأسرة هو محور الاتصال بين المستوى الأول والثاني في الرعاية الصحية،
من خلال الإحالة منه ثم الإحالة الراجعة إليه. عدد المستشفيات في المملكة بلغ عام 1435هـ (451) مستشفى تضمّ (81500) سرير. ويتبع القطاع الخاص (141) مستشفى (31 في المئة) وبها (15660) سريراً (19 في المئة) ، اما وزارة الصحة فلها (270) مستشفى (60 في المئة) بها (40000) سرير (49 في المئة) ؛ ولكن عند النظر إلى توزيع أسرة ومستشفيات القطاع الخاص نلاحظ أنها تتركز في مناطق الرياض وجدة والدمام التي بها (51 في المئة) من سكان المملكة. فيوجد هناك (57 في المئة) من مستشفيات القطاع الخاص ( وزارة الصحة 29 في المئة فقط) ، و(70 في المئة) من أسرّته (وزارة الصحة 35 في المئة). ومن البديهي أن يبحث القطاع الخاص عن الكثافة السكانية حتى يضمن (السوق) ، وأن يحرص على توفير الخدمات التي يجد المرضى بعض الصعوبة في الحصول عليها والتي تُدِرّ إيرادات ضخمه، مثل الولادة وعمليات التجميل وجراحة المفاصل والقسطرة القلبية، ومستشفياته ذات حجم متوسط تسهل إدارته وضبط تكاليفه.
أما وزارة الصحة فهي تمثّل الدولة الملتزمة بتوفير الرعاية الصحية لكل مواطن (مادة 27 من النظام الأساسي للحكم) بدون اعتبار لعنصر (السوق) . ولذلك لا بُدَّ من توفير المستشفيات قريباً من المواطن في المدن المأهولة والقليلة السكان، وان تشمل الرعاية الثانوية معالجة الأمراض المزمنة والنفسية التي تتطلب عناية طويلة والأمراض المعدية والمستعصية، وتوفير الرعاية الطبية التي تتطلب تقنية معقدة ذات كلفة عالية في مستشفيات مرجعية. هذا هو الفارق الجوهري - من جهة العرض - بين المستشفيات الخاصة ومستشفيات وزارة الصحة. فما هو الفارق بينهما من جهة الطلب ؟ بينما يفضّل الناس مراجعة المجمعات والعيادات الخاصة، فإنهم ينظرون للمستشفيات الخاصة والعامة بشيء من الانفصام. فالمستشفيات العامة في المدن الكبيرة تحظى عادة بالثقة من حيث الخدمة الطبية السريرية وكفاءة الأطباء، ولكن يقابل ذلك مرّ الشكوى من نقص الأسرة والصعوبة في المواعيد ومقابلة الاستشاريين وسلبية الاستقبال والخدمات الفندقية وبيروقراطية الإدارة ونفوذ الواسطة والمحسوبية. المستشفيات الخاصة تحظى بالرضا من حيث حسن الاستقبال والخدمات الفندقية وقصر مدة المواعيد ومناسبة أوقات الدوام ومراجعة العيادات التخصصية بدون إحالة، لكن الخدمة الطبية ليست أفضل من المستشفيات العامة ولا تتمتع بثقة أكبر. أما الشكوى المرّة فإنها تدور حول الجشع المتمثل في غلاء الأسعار والمبالغة في الإجراءات العلاجية والفندقية.
وعلى الرغم من انفصامية هذه النظرة، فإنَّ ذلك لا يحول دون الأخذ بخيار التخصيص الذي سوف تتحقق من ورائه ثلاثة مكتسبات على الأقل، أولها: عدم انشغال وزارة الصحة بالإشراف على مستشفياتها الذي يصرفها عن الاهتمام بوضع السياسات والأنظمة والتخطيط والمراجعة ومراقبة الجودة والصحة الوقائية ويضعف فعالية الخدمة الصحية؛ وثانيها أن دمج المستشفيات الخاصة في شبكة النظام الصحي يوسّع نطاق حصول المرضى على الرعاية الصحية ويعالج مشكلات النقص والتكدس والسلبيات الأخرى؛ وثالثها أنه سيؤدي إلى تماثل المعايير وفعالية الرقابة وتطوير النظم والإجراءات الإدارية والمالية.
النموذج الأبسط للتخصيص : إذا افترضنا قبول النموذج المقترح للتخصيص في مستوى الرعاية الأولية - أي دمج المجمعات الطبية الخاصة (المستوصفات) في شبكة الخدمات الصحية العامة على قاعدة طبيب الأسرة، فإنَّ التخصيص في مستوى الرعاية الثانوية (المستشفيات) هو استمرار لذلك النموذج، بحيث يكون طبيب الأسرة هو محور الاتصال والتحويل بين المستويين، وذلك وفق الشروط التالية :
أ - البدء بتحديث وتطوير إدارة المستشفي الحكومي واعتباره مؤسسة ذات ميزانية مستقلة وإدارة ذاتية تعتمد أسلوب القطاع الخاص في حساب الإيرادات والتكاليف، وتكون مسؤولة وحدها أو مع مجموعة من المستشفيات - حسب حجم المستشفى - أمام مجلس للإدارة ومدير عام المنطقة. ولا يعني هذا تقليص المستشفيات الخاصة أو الحدّ من إنشائها، إِذْ إن قطاعاً عريضاً من المجتمع يفضّل العلاج والتنويم فيها.
ب - لا بُدّ أن يوازي الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها الإدارة الذاتية تفعيل قويّ للمراجعة المالية والإدارية لكل مستشفى.
ج - اجراء التقويم المستمر للمستشفيات الحكومية والخاصة وفق معايير المجلس الوطني لاعتماد المنشآت الصحية، وجعل ذلك أساساً للمساواة في التعامل بين القطاعين الحكومي والخاص.
د - معاملة المستشفيات الخاصة مثل الحكومية في الحالات الإسعافية وغير الإسعافية من حيث الإحالة بينها أو إليها على قاعدة طبيب الأسرة، على أن يَتمَّ تنظيم دفع التكاليف وفق أسلوب التمويل المعتمد (كما سيوضح لاحقاً) .
هـ - يراعى في تخطيط وتوزيع الخدمات الصحية دور المستشفيات الخاصة في تقديم الرعاية الصحية، بحيث لا يختلف هذا الدور بأكثر من ملكية المنشأة وعامل الربح، ويبقى الهدف الاجتماعي مكفولاً.
و - إن التوسع في التخصيص بحيث يمتدّ إلى بيع أو تأجير مستشفيات حكومية أو تأسيس شركة مساهمة ممكن - حسب ما ورد في اللائحة التنفيذية للنظام الصحي الصادر بتاريخ 23 - 3 - 1423هـ. على أن هذا يظل خيارا ظرفياً وليس برنامجاً واجب التنفيذ، أي في الظروف التي ترى فيها الدولة أن البيع أو التأجير لا يُخلّ بالهدف الاجتماعي وهو ضمان توافر الخدمة العلاجية وضمان الحصول عليها، وقدرة المستثمر على إدارتها وتشغيلها، وهذا قد ينطبق على المستشفيات متوسطة الحجم في المدن الكبيرة والمتوسطة.
ثالثاً - التمويل والتأمين الصحي
إن التخصيص الحقيقي يجب أن يركز على المفهوم والغاية وليس على الشكل، أي ألا تقتصر غايته على التخلص من مشكلة إدارية، بل تمتدّ لأوسع من ذلك وهو تحسين كفاءة الأداء وفعالية الخدمة الصحية وتسخير إمكانات القطاع الصحي الخاص لخدمة الهدف الاجتماعي. الإجراء الأساسي الفعال لتحقيق ذلك هو الفصل بين مموّل (أو مشتري) الخدمة وبين مقدّم الخدمة. وهذا أيضاً هو المطبق في القطاع الخاص من حيث المبدأ، فالمستثمر يوفر الموارد ويحدّد الهدف (العائد) الذي في ضوء ناتجه يقيم مقدّم الخدمه (البائع مثلاً) . وقريباً من ذلك تفعل وزارة الصحة، عندما تترك تقديم الخدمة لوحدات تنظيمية ذاتية الإدارة (مستقلّة) ووحدات من القطاع الخاص، وتقوم هي أو جهة التأمين بتمويل (شراء) الخدمة ورقابة الأداء والنتائج. الفصل المطلوب يتمّ من خلال التمويل بأحد أسلوبين :
الأسلوب الأول - التمويل المزدوج : تُعتمد للوحدات الصحية الحكومية ذات الإدارة الذاتية (منفردة أو في مجموعات حسب الحجم) ميزانية سنوية، ويكون أساس المحاسبة والمراجعة حساب التكاليف والاستخدام وتحقيق الأهداف. أما بالنسبة لمرافق القطاع الخاص التي تقدّم خدمات للمرضى المسجلين على حساب الدولة أو شركة تأمين فيتمّ دفع التكاليف وفق شروط الاتفاق مع الجهتين. وهنا يوجد احتمال بتكرار الخدمة والتكلفة، ونشوء تمايز اجتماعي بين من يراجع القطاع الخاص والحكومي في نوعية الخدمة بسبب اختلاف وسيلة الدفع.
الأسلوب الثاني - التأمين الشامل:
التأمين الصحي الشامل هو الوسيلة الأنسب لتغطية الإنفاق المشترك على خدمات العلاج الخاصة والحكومية - لتحاشى سلبيات الأسلوب الأول. والتأمين الشامل لا يعنى التأمين من جهة واحدة، بل يمكن تقديم خدمة التأمين من عدة جهات ( صناديق حكومية وشركات) ، ولشرائح من المجتمع مثل المتقاعدين أو منسوبي الضمان الاجتماعي أو الطلاب أو موظفي الدولة أو العمالة الوافدة أو منسوبي القطاع الخاص السعوديين وللأفراد أو العوائل...الخ. المهم أن يكون للجميع الحق في أن يشملهم التأمين، وأن بطاقة التأمين تؤهل حاملها لزيارة طبيب الأسرة المسجل عنده والمستشفى الذي يحيله إليه - حتى لو تطلّب تفضيل المراجع لخدمة المستشفى الخاص مبلغاً أو تأمينا إضافياً. في كل الأحوال فإنَّ المرفق الخاص سيستخدم البطاقة لإعداد الفاتورة واستلام قيمتها من جهة التأمين. والمرفق الحكومي يستخدم البطاقة لإعداد مستند يرسل للجهة صاحبة المرفق التي تجمّع المستندات وتُعدّ في ضوئها ميزانية هذا المرفق.