د.عبدالله مناع
مع دورتي الانتخابات البرلمانية المصرية التي انتهت - بكاملها - مساء يوم الأربعاء الماضي، وتابعها العالم العربي كله.. من خلال قنواته المحلية وفضائياته العربية والدولية، وراقبتها أكثر من ثمانين منظمة حقوقية مصرية وعربية، وست منظمات دولية أمريكية أوروبية: عبر خمسمائة وستة وعشرين مراقباً أجنبياً.. كنت من بين الآلاف الذين
كانوا يضعون أيديهم على قلوبهم وهم يتابعون سيرها في دورتيها.. خوفاً من تعطيلها بعمل إرهابي إخواني متهور من جانب.. وخوفاً من أن يتسرب إلى (نتائجها) المتربصون بها: من (فلول) الحزب الوطني بـ(أموالهم) وسطوتهم و(وجاهتهم) التي اكتسبوها عبر الواحد والثلاثين عاماً من حكم (مبارك).. ومن (ذيول) جماعة الإخوان الإرهابية ودراويشهم وأفنديتهم من جانب آخر.. باعتبار هذه الانتخابات هي فرصتهما الوحيدة والأخيرة التي أتاحتها لهما (خارطة المستقبل)، التي ولدت على يد ثورة الثلاثين من يونيه من عام 2013م الشعبية الكاسحة.. ببنودها الخمسة (تعديل الدستور، فالاستفتاء عليه، فالانتخابات الرئاسية المبكرة، فالانتخابات البرلمانية، فتشكيل الحكومة الجديدة).. للمشاركة في السلطة ولو بـ(مقعد) واحد في البرلمان الجديد..!!
* * *
نعم. كان الخوف والقلق من احتمالات نتائج هذه الانتخابات حاضرين وبأعلى الدرجات.. فليست هناك أجهزة - كأجهزة الكشف عن (الدخان) في دورات مياه الطائرات - للكشف عن هؤلاء (الفلول) أو أفندية (الجماعة) إن هم ارتدوا ثياب (المستقلين)، وحلقوا شواربهم ولحاهم ولبسوا أفضل الملابس الأوروبية.. وتقدموا لـ(ترشيح) أنفسهم لعضوية هذا (البرلمان)..؟!
لكن نتائج انتخابات المرحلة الأولى في الأربع عشرة محافظة من محافظات مصر السبعة والعشرين.. كانت مطمئنة، ومبهجة في ذات الوقت.. رغم نسبة التصويت المحدودة والتي بلغت 26,69% من أصوات إجمالي الناخبين في المرحلة الأولى، إذ فاز فيها (213) نائباً على نظام القوائم الفردية.. كان من بينهم (105) نواب ينتمون لأحزاب سياسية، و(108) نواب من المستقلين، بينما بلغ عدد الفائزين على نظام القوائم الحزبية (60) نائباً.. جميهم من قائمة (في حب مصر)، التي تضم عدداً من الأحزاب السياسية في مقدمتها: حزب المصريين الأحرار (41 نائباً)، وحزب مستقبل وطن (25 نائباً)، وحزب الشعب الجمهوري (21 نائباً) وحزب الوفد (15 نائباً) وبقية الأحزاب الصغيرة التي من بينها حزب (النور) المشكوك في دستوريته رغم حكم المحكمة لصالحه بـ(7) مقاعد.. إلى جانب أعداد من المرشحين المستقلين الذين أصبح ستون منهم (نواباً) في المرحلة الأولى.
ولم تكن مقدمات نتائج انتخابات المرحلة الثانية التي جرت في الثلاث عشرة محافظة الباقية من محافظات مصر.. لتختلف عن ذلك كثيراً.. حيث فاز ستون نائباً على القوائم الحزبية - دون إعادة - ينضوون جميعهم تحت قائمة (في حب مصر).. أما قوائم الفردي التي يتنافس عليها (426) مرشحاً على (213) مقعداً.. فلم يمكنني اللحاق بموعد تسليم المقال لـ(إدارة تحرير الجريدة).. من الانتظار لمعرفة نتائجها..!!
* * *
على أي حال.. ليس هناك من شك.. في أنه كان لـ(الأمن) المصري ورجال القوات المسلحة.. الدور الأكبر والأبرز في حماية العملية الانتخابية برمتها، واللجان الانتخابية وعشرات عشرات مراكز الاقتراع على وجه الخصوص.. من (إرهاب) جماعة الإخوان، الذين هددوا به ومارسوه. فلم يفلحوا! كما كان لـ(اللجنة العليا للانتخابات) الدور الأخطر والأهم.. في غربلة المتقدمين لترشيح أنفسهم، وتخليص قوائم الأحزاب والمستقلين بحد سواء من المندسين بينهم من الجانبين: (الفلول) و(الجماعة)، ولم يكن ذلك سهلاً على (اللجنة العليا للانتخابات).. في منع وصولهم كـ(مرشحين) إن أفلتوا من (الغربلة) وفازوا بترشيح اللجنة.. لأوساط المجتمع المصري.. الطيب في عمومه، والأكثر طيبة في طبقته الدنيا، التي تشكل الأغلبية أو عظام الرقبة في مثل هذه الانتخابات وفي أي انتخابات أو استفتاءات أخرى، فهم أميل إلى التسامح و(معلهش) و(ربنا يسترك) و(المسامح كريم).. إلى آخر هذه الكلمات التي ترقق القلوب، والتي يستغلها أباطرة المال، ودهاة الطبقة الوسطى (العليا!!).. أسوأ استغلال.. في تجييرهم لصالح انتخابهم..!
لقد كان من عجائب ما شهدته اللجنة العليا للانتخابات وتردد في وسائل الإعلام.. عندما تقدم لها السيد (أحمد عز) (الفلولي) الأصلي بحكم موقعه كـ(أمين عام لجنة السياسات) التي كان يرأسها ابن الرئيس (جمال مبارك).. والتي كانت تشكل دولة داخل الدولة المصرية، والتي باعت أجمل أراضي مصر وبقية حصونها الاقتصادية لـ(البهوات) من أعضائها برخص التراب.. بطلب ترشيح نفسه كـ(مستقل) في هذه الانتخابات, فكان أن رفضته (اللجنة).. ولكنه لم يقتنع برفضها.. بل وتقدم للقضاء بطلب إنصافه!! واجتمعت المحكمة الإدارية للنظر في قضيته.. ثم حكمت بتأييد قرار لجنة الانتخابات العليا برفض طلبه، فلم يقبل واستأنف - لدى محكمة الاستئناف - التي أيدت قراري (اللجنة العليا للانتخابات) و(المحكمة الإدارية) برفض طلب ترشيحه.. وهي عينة من مماحكات (الفلول) واستهبالهم، والتي لابد وأنه ماثلها مماحكات (إخوانية) لم يعلن عنها أو عن أسمائها وأصحابها إن كان (بلتاجي) أو (شاطر)..!!
* * *
لكن الدور الأعظم.. في هذه الانتخابات البرلمانية ونجاحها - قل أو كثر -.. إنما يعود إلى جماهير ثورة الثلاثين من يونيه، التي لم تخرج في ذلك اليوم القائظ من أيام يونيه.. لـ(تصوِّت) فيما بعد لمن ثارت عليهم في الخامس والعشرين من يناير 2011م، ومن ثارت عليهم في الثلاثين من يونيه من عام 2013م.. بل خرجت وفي وعيها: إزالة (طبقية) حكم مبارك التي سحقت الطبقة المتوسطة والأغلبية الكادحة منهم وملأت بطون وجيوب الأعوان والمحاسيب.. وإزالة (دروشة) مرسي وبديع والبلتاجي التي لا تغني ولا تسمن من جوع، والتي أحرقت (قاهرتهم) العزيزة، وقتلت فلذات أكبادهم في سيناء والعريش وكرداسة، وأظلمت ليل قلب العروبة النابض!! فإن تسرب من ثوار يونيه.. ألف أو ألفان، وصوتوا لصالح (مستقل) متنكر من (الفلول) أو (الإخوان) تحت دواعي الحاجة والاضطرار.. فإن وجوده في البرلمان الجديد (مجلس الشعب) لن يقدم ولن يؤخر، ولن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى زمن الآيات (الإخوانية)!!
فقد كان هدف الثائرين في الثلاثين من يونيه.. هو استعادة مصر (المدنية) من أيدي الدراويش والمجاذيب والمهابيل، لتبقى (مصرهم) التي أحبوها وعشقوها وغنوا لها.. وفاخروا الدنيا بها: مصر الحضارة والتاريخ.. مصر الآثار والعلوم.. مصر الآداب والفنون والموسيقى والغناء.. مصر الثقافة الرائدة في منطقتها وفي العالم.
* * *
إن أعظم ما في هذا البرلمان المصري الجديد.. حتى ولو لم يعبر بدقة عن ثورتي الخامس والعشرين من يناير، والثلاثين من يونيه.. إنه قاد مصر (المدنية) إلى (بر الأمان)، وقد استكملت كل مقوماتها الدستورية: من المحكمة الدستورية إلى الدستور.. ومن الرئاسة إلى البرلمان المنتخب ومن الحكومة المعينة إلى الحكومة المنتخبة، وهو ما سيسكت كل المتخرصين بمصر.. ممن كانوا يشككون في إنفاذ (خارطة المستقبل) التي جاءت بها ثورة الثلاثين من يونيه، لأن ما حدث في ذلك التاريخ - على رأي الأمريكيين والبريطانيين.. منهم - ليس بأكثر من انقلاب عسكري بثياب مدنية!!
لقد أكمل الرئيس عبدالفتاح السيسي (.. جميله).. كما طالبت مصر كلها.. والصحفي الزميل الأستاذ مصطفى بكري عندما كتب في صحيفة (الأسبوع) في بداية أحداث ثورة يونية: (كمل جميلك يا سيسي)؟!.