نجيب الخنيزي
في موازاة تلك التحركات ذات الطابع الجماهيري التي شهدتها بعض البلدان العربية إثر ما سمي «الربيع العربي» والتي أدت إلى إسقاط حكامها، غير إنه في المقابل سارعت في تفكيك أو إضعاف بنية الدولة، ونسيجها الاجتماعي والوطني، وصعود وتصدر الهويات (الدينية والمذهبية والقبلية والإثنية والمناطقية) الفرعية، ناهيك عن تنام استخدام العنف لتحقيق أهداف وأغراض سياسية مباشرة تستهدف الإطاحة بالنظم القائمة، وفي معظم هذه التحركات كانت جماعات الإسلام السياسي التي تتصدر هذه العمليات، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اتسعت موجات العنف والتطرف في المجتمعات العربية ولماذا تصدرت الجماعات الإسلامية وأخذت زمام المبادرة في التصدي للأنظمة على امتداد المنطقة العربية، وصولا إلى ظاهرة تفريخ الجماعات الإرهابية / التكفيرية من أمثال «داعش» و»النصرة» و»القاعدة» ومثيلاتهم؟
يمكننا القول: إن هنالك عدة عوامل ساعدت على ذلك أهمها:
أولاً: الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في العالم العربي حيث الاعتماد الأكبر على مصادر ريعية (نفط، غاز، فوسفات، سياحة) غير إنتاجية، إلى جانب تفشي نسبة الفقر (65 مليونا) والبطالة والإحباط وبخاصة بين الشباب دون سن 25 الذين يشكلون60% من إجمالي سكان العالم العربي، وتصل نسبة البطالة بينهم إلى 30%، مع تفاقم المديونية ونزوح الأموال العربية إلى الخارج، وانصياع الحكومات العربية لنصائح صندوق النقد الدولي وشروط العولمة مما أدى إلى تقليص الاتفاق الحكومي العام وتدهور قطاع الخدمات ورفع الدعم عن السلع الأساسية وتجميد الأجور وتدهور فرص العمل والتعليم الذي مس وأثر في القطاعات والفئات الشعبية كافة، الأمر الذي عمق الفوارق الاجتماعية والطبقية وولد حالة من الإحباط واليأس والخوف من المستقبل الكئيب والمظلم خصوصا مع تعثر مشروعات التنمية وغياب عدالة التوزيع وتفشي الفساد وتنامي الإحساس العام بالظلم والحرمان، وفي ظل تعمق التبعية للخارج.
ثانياً: العنف السياسي الذي مارسته النظم العربية التي تميزت بالمركزية الشديدة والسلطوية والاستبدادية سياسيا وأمنيا وأصبح العنف أو التهديد باستخدامه سياسة رسمية الأمر الذي أعطى دوراً استثنائياً لأجهزة السلطة المختلفة في قمع وإرهاب الناس والتدخل في حرياتهم الشخصية ونمط تفكيرهم وممارستهم محاولين خلق رعايا (لا مواطنين).
ثالثاً: فشل السياسات والمشاريع الليبرالية والقومية والاشتراكية التي طرحتها التيارات والنخب الممثلة لها نظرا لعدم استيعابها الواقع وتحدياته ومتطلبات وهموم ومشكلات الناس الفعلية ولم يتحقق في الواقع أي من الشعارات الكبرى التي رفعتها الأنظمة العربية كشعارات السيادة والاستقلال والتنمية والوحدة وتحرير فلسطين والعدالة الاجتماعية.
رابعاً: غياب التقاليد الديمقراطية في دول ما يسمى بالربيع العربي التي تسمح بإمكانية التغير والتطوير باستخدام الوسائل السياسية السلمية الأمر الذي جعل العنف هو البديل المتاح سواء من قبل الناس التواقة للتغير، أومن قبل السلطة السياسية التي ظنت بأن آلتها الأمنية كفيلة بشل وإنهاء أي معارضة شرعية أو غير شرعية، مما أدى إلى ضمور وغياب منظمات ومؤسسات المجتمع المدني ويباس وهامشية قواه الحية مما خلق الظروف المواتية لانبثاق أعمال وأشكال التطرف والممارسات العنيفة التي تقوم بها القوى والجماعات التكفيرية / الظلامية المعارضة.
خامساً: السياسات الإعلامية والتعليمية والتربوية والثقافية القاصرة في هذه الدول عملت على خلق أجيال لها رؤية واحدة ونمط تفكير واحد. ورفض أي آراء أخرى وتسفيهها بل وتحريمها واعتبارها من الكبائر التي تستوجب الإدانة والعقاب، فحالة العنف ليست حالة فوقية أوسلطوية فقط بل هي حالة مجتمعية عامة نشاهدها في العلاقة الأسرية، وعلاقة المدرسة بالطلاب وعلاقات الناس فيما بينهم في ظل غياب ثقافة التسامح والقبول بالآخر والمغاير وسيادة الروح والعقلية الاستبدادية القطعية والجاهزة التي تظن أن ما يعتقده هذا الفرد أو تعتقده هذه الجماعة هو الحقيقة المطلقة التي يجب على الآخرين التسليم بها وإلا فإنهم سيقعون تحت طائلة الإدانة والتكفير والردة.
مواجهة مجاميع الإرهاب المتنامية في جل البلدان العربية التي كرست ظاهرة انهيار الدولة كجهاز بيروقراطي / أمني في العديد منها كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال، لن يتحقق من خلال الحلول والتدابير الأمنية / العسكرية فقط على أهميتها، لذا يتعين أن تكون المواجهة شاملة في أبعادها الأمنية / الاجتماعية / الاقتصادية / الفكرية، وهذا لن يتحقق إلا من خلال بناء الدولة المدنية الحديثة. والانتقال من نمط معرفي (تقليدي) للرؤية إلى نمط آخر (متجدد) مغاير له، وهي بهذه الصفة تشكل عملية قطع وتجاوز للرؤية والتصورات الساكنة والمحافظة السابقة، في فهم وتحليل وتفسير الواقع وصولاً لتطويره وتغييره والسؤال الذي يطرح نفسه هنا. هل ينطبق هذا المفهوم على المجتمعات العربية الأبوية / الذكورية التي تعيش في تناقض مع كل من الأصالة والحداثة في الآن معاً على الرغم من بعض محاولات التوليف والتلفيق الفاشلة في عملية ذرائعية ونفعية محضة.
التغير ليس هدفاً بحد ذاته ما لم يرتبط بمفهوم التقدم والتطور. التغير المنشود الذي طالبت به جماهير تلك الدول هو المرتبط بمفهوم التقدم وبناء مقومات الإنسان وحفظ دوره ومكانته الإنسانية أو مشاركته في صنع القرار، في دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.