نجيب الخنيزي
في موازاة تبلور الدولة الحديثة أخذت تتشكل منظمات ومؤسسات مدنية مستقلة، ترفد الدولة، وتراقب وتصوب ممارساتها، وتشارك في تحقيق الكثير من المهام والوظائف الاجتماعية التي عجزت أو تخلت الدولة عن القيام بها. إذا اختلفت دلالة المفهوم من مجرد التمييز بين المجتمع الطبيعي (القديم) والمدني (الحديث)، والتحديد بين العام (السياسي) والخاص (الثقافي) ليصبح مفهوماً له دلالة جديدة يعبر عن قطيعة وتجاوز لمعناه القديم، يتمثل في بروز فاعل اجتماعي محدد في البلدان المتقدمة، هي منظمات وهيئات ومؤسسات مدنية مستقلة عن المجتمع السياسي (الدولة) تمتلك من القوة والنفوذ والموارد ما يمكن أن يتجاوز إمكانات العديد من الدول، ونشير هنا على سبيل المثال إلى أن ما رصدته مؤسسة بيل جيتس (مالك شركة ميكروسوفت) لدعم المشاريع الاجتماعية، والأبحاث العلمية، والدراسات الخاصة بالأمراض المستوطنة والخطيرة (الايدز) يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، وهي تفوق ميزانيات العديد من الدول النامية مجتمعة. كما أعلن الأمريكي مؤسس «الفيسبوك» مارك زوكيربرغ، في الأسبوع الماضي لمناسبة ولادة طفلته الأولى، تبرعه وفقاً لما كتبه في «تايم لاين» حسابه «الفيسبوكي» بـ 99% من الأسهم التي يملكها في «فيسبوك» مع زوجته الأمريكية من أصل صيني، للأعمال الخيرية، أي ما قيمته في البورصات هذه الأيام أكثر من 45 ملياراً من الدولارات، وهو أكبر تبرع بالتاريخ.
ومن هنا نلحظ أن الدول الرأسمالية الغربية لجأت إلى استخدام مفهوم المجتمع المدني للتغطية على استقالتها من وظيفتها الاجتماعية/ الاقتصادية وفقاً لمنطق الليبرالية الجديدة، وقوانين السوق الغابية، ومصالح الشركات متعددة الجنسية، الذي أصبح مجالها الحيوي يشمل العالم بأسره. وهو ما يتجلى في العولمة وآليات هيمنتها (الوطنية والدولية) غير أن الدول الرأسمالية الغربية هنا إذ تنسحب من ميادين معينة (لصالح المجتمع المدني) كانت من اختصاصها حتى أمد قريب، فإنها تؤكد حضورها في ميادين وجوانب رئيسية أخرى. وينبغي القول هنا إن الحديث عن إلغاء الحدود والحواجز أمام انتقال الرساميل والسلع والتقنية والأفكار والبشر (مع وجود قيود صارمة على صعيد العمالة المهاجرة من بلدان الجنوب) على امتداد العالم والتي تبشر بها العولمة، يعني ضمن معادلات القوة والسيطرة السائدة طريقاً ذا اتجاه واحد، ينطلق وينبع من الدول المتقدمة الغنية صوب البلدان المتخلفة الفقيرة . وبما يؤبد تخلفها وتبعيتها وارتهانها.
أما في البلدان النامية ومن بينها البلدان العربية، فإن بروز وتنامي استخدام هذا المفهوم، والدعوة إلى بناء وترسيخ قيام مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني المستقلة، يأتي في سياق فشل النخب العربية (التقدمية والمحافظة معاً) في بناء الدولة/ الأمة، وترسيخ رابطة وهوية وطنية جديدة على أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، والتي تجب وتمثل قطيعة مع ما قبلها من انتماءات وولاءات (قبلية وعشائرية ومناطقية ومذهبية) فرعية تقليدية، يضاف إليها فشل أنماط التنمية والتخطيط الإداري (البيروقراطي) للاقتصاد الوطني، والتي حددتها تقارير التنمية العربية في ثلاثة نواقص أساسية هي: نقص الحرية، نقص تمكين المرأة، نقص المعرفة.
مؤسسات المجتمع المدني تطرح هنا كمطلب لسد الفراغ، في الفضاء العربي وردم الهوة بين الدولة الاستبدادية/ الريعية وأجهزتها البيروقراطية/ الأمنية المتغولة، التي تعيش فشلها وأزمتها الشاملة على جميع المستويات والأصعدة من جهة، وبين المجتمعات العربية المتراجعة إلى مكوناتها التقليدية الفرعية، والذي يحمل معه مخاطر التفكك، وانفجار وتصاعد أعمال العنف والإرهاب من قبل الجماعات المتطرفة والتكفيرية والموجهة ضد الجميع، وعلى النحو الذي نشاهد تجلياته في معظم المجتمعات العربية من جهة أخرى. وهنا يتعين التنويه بقرار مجلس الوزراء الصادر في نهاية شهر نوفمبر الفائت الموافقة على نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وقد أعد مرسوم ملكي بذلك وقد جاء في القرار «ويهدف نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية إلى تنظيم العمل الأهلي وتطويره وحمايته، وتعزيز مساهمة المواطنين في إدارة المجتمع، وتفعيل ثقافة العمل التطوعي وتحقيق التكافل الاجتماعي، ويؤسس هذا النظام إطاراً تشريعياً لعمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية يُبيّن الأحكام الخاصة بتأسيسها وإدارتها والإشراف عليها.