نجيب الخنيزي
الهجمات الدامية التي تعرضت لها باريس يوم الجمعة 13 من شهر نوفمبر الجاري وما سبقها من عمليات إرهابية وفي فترة زمنية متقاربة، كما حصل مع تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء المصرية وتفجير الضاحية الجنوبية في بيروت، التي خلفت المئات من القتلى والجرحى وقد أعلن تنظبم «داعش الإرهابي» مسؤوليته عنها، وهو ما أعاد التساؤل من جديد حول تحديد دور العوامل الداخلية والخارجية التي مكنت هذا التنظيم من تشكيل دولة تشمل أراضي واسعة في سوريا والعراق تبلغ مساحتها مساحة بريطانيا، ويمتلك إمكانات عسكرية ومالية وبشرية ولوجستية ضخمة، وضمن هذا السياق ما هي مسؤولية الغرب تحديدًا في بعث ودعم الأصولية الإسلاموية والتنظيمات «الجهادية المتطرفة الأخرى؟
تصاعد وامتداد التنظيمات الأصولية الإسلامية والجماعات الإرهابية، في عموم مجتمعات البلدان العربية - الإسلامية، يعود إلى خليط من المحددات والعوامل الموضوعية والذاتية الداخلية من جهة، وطبيعة المحفزات والتحديات الخارجية من جهة أخرى، كما ينبغي عدم القفز على الدور المهم للعوامل الخارجية، التي لا تزال في مفاصلها الأساسية مستمرة، وتمارس فعلها حتى وقتنا الحاضر، والمتمثل في دعم الغرب لقيام دولة إسرائيل ككيان عنصري - استيطاني - توسعي على حساب مصالح الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه المحتلة، ومورس ضده أبشع صنوف الانتهاكات والقمع والإرهاب، وعلى حساب مصالح جيرانها من العرب، ومحيطها الإقليمي، وحيث لاتزال تحتل أراضي عربية (فلسطينية وسورية ولبنانية) وتوجه التهديدات المستمرة ضد الدول العربية وغيرها، ناهيك عن استمرار المطامع والمصالح الاستعمارية والامبريالية القديمة - الجديدة، للتحكم المباشر وغير المباشر في ثروات ومقدرات وهويات شعوب المنطقة، سواء من خلال آليات العولمة والتبعية الاقتصادية والسياسية، أو عبر الابتزاز العسكري وصولاً إلى الاحتلال والتدخل المباشر (العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا، لذلك لا نستطيع تجاهل دور تلك العوامل في استثارة الهويات الفرعية الخاصة.
لقد كانت الفكرة والهوية القومية، هي الجامع والمحرك الرئيس لنضال الشعوب العربية نحو تجسيد تطلعات الاستقلال والتحرر والحرية والوحدة، غير أن الدولة العربية «الحديثة» برافديها القومي الراديكالي، والمحافظ في الآن معًا، وصلت إلى طريق مسدود وتكشف عجزها وفشلها إزاء محاور أساسية وحاسمة، كالتنمية المستدامة وترسيخ قيم العقلانية والحرية والديمقراطية وحقوق الإِنسان، كما فشلت في تمثل الحداثة ومتطلباتها، ما عدا مظاهرها البرانية الممسوخة (باستثناء بعض المحاولات الانتقائية المحدودة)، وكذلك فشلت إزاء الاستحقاقات القومية في الوحدة العربية، ومواجهة إسرائيل وأطماعها التوسعية، والمدعومة بقوة من التحالف الغربي ثم من الولايات المتحدة الأمريكية. لقد مثلت هزيمة يونيو - حزيران 1967 ذروة انتكاس المشروع الوطني - القومي، حيث أخذ مسارًا آخر يشق طريقه بقوة تبلورت مع نظام السادات في مصر، وأنظمة عربية عسكرية - استبدادية أخرى. انتهج نظام السادات ما سمي بسياسة الانفتاح، وهي مزيج من الليبرالية الاقتصادية ذات الطابع التبعي (الكومبرادوري) والطفيلي، مغلفة ببعض المظاهر الشكلية لليبرالية السياسية المحدودة، بهدف سحب البساط من تحت أقدام مناوئيه الأقوياء، على صعيد الدولة والمجتمع، وخصوصًا خصومه من الناصريين واليساريين الذين كانوا يتمتعون آنذاك بنفوذ شعبي واسع. وضمن سياق تداخل المصالح، أطلق السادات سراح أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ممن كانوا في المعتقلات إبان حكم جمال عبدالناصر، ورفعت جميع القيود أمام استئناف نشاطهم بقوة من جديد، كما حظوا بدعم مباشر وغير مباشر من قبل الأجهزة الحكومية، وقد انتهز الإخوان المسلمين في مصر فترة سنوات المهادنة مع السادات بصورة جيدة لإعادة بناء قوتهم التنظيمية والتعبوية والجماهيرية، ولتحقيق هذا الهدف انتهجوا سياسة التقية السياسية من جديد، على غرار تعامل فروعها الأخرى والحركات الإسلامية المشابهة في البلدان العربية والإسلامية لقد استفادت الأصولية الإسلاموية من خوف الكثير من الأنظمة الحاكمة والغرب عمومًا، من المعارضة الداخلية، وخصوصًا في مرحلة المد القومي (منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي)، ثم المد اليساري (الستينيات والسبعينيات من القرن نفسه) وأجواء المواجهة مع الاتحاد السوفيتي السابق إبان الحرب الباردة، وكذلك حاجتهم الماسة لتوظيف الدين، ويتضح ذلك من خلال الدعم الأمريكي - الغري - العربي ما سمي بالجهاد الإسلامي ضد التواجد السوفيتي في أفغانستان، والمساعدة في تشكيل ودعم تنظيم القاعدة وغيرها من التشكيلات المتطرفة، وهو ما استغلته الأصولية التقليدية وحركات الإسلام السياسي، لإعادة تجميع قواها وتحديد تكتيكاتها الآنية والمؤقتة، وخصوصًا طموحها في طرح وتسويق نفسها كبديل للأنظمة السائدة وللمعارضة الأخرى في الآن معًا.
وللحديث صلة..