د.عبدالله مناع
لست أدري إن كانت (المصادفة) وحدها هي التي دفعت.. بهذا العدد الكبير من الأدباء والكتّاب والشعراء إلى عالم (الدبلوماسية)..؟! أم إنها (الكاريزما) الشخصية التي يمتلكونها.. إلى جانب مؤهلاتهم العلمية، وثقافتهم المعرفية العريضة التي يتحلون بها.. هي التي جعلت (الخارجية)
تتخطفهم - أو.. تتسابق عليهم - الواحد بعد الآخر.. للعمل في رحابها وأبهائها وصمت قاعاتها وجهر منصاتها وسفاراتها وقنصلياتها..؟ ولكن الذي أدريه يقيناً، ويمكنني استحضاره في لحظة - وكما أفعل الآن -.. هو أن الخارجية السعودية ومنذ نجميها الأولين - الدكتور عبد الله الدملوحي، والأستاذ فؤاد حمزة - وإلى أن انتهت إدارتها إلى يد - نائب الملك في الحجاز آنذاك الأمير فيصل فـ (الملك) فيما بعد - كانت تستقطب أصحاب المواهب هؤلاء من الأدباء والشعراء والكتّاب، الذين كان أولهم - دون شك - الشيخ أو الأستاذ خير الدين الزركلي.. صاحب قصيدة (صبر العظيم على العظيم / جبار مكة والحطيم) الذائعة الصيت، وأهم الكتب التاريخية الأولى عن الملك عبد العزيز وحياته (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز).. والذي عمل سفيراً ومندوباً للمملكة لدى الجامعة العربية عند إنشائها عام 1945م في القاهرة، ثم تواصل من بعده استقطاب هؤلاء الأدباء والشعراء والكتّاب للعمل في (الخارجية) سفراءً أو قناصل أو ملحقين ثقافيين.. فكان ثانيهم - بعد الزركلي - الأستاذ فؤاد الخطيب سفيراً في أفغانستان.. فالشاعر الأستاذ (محمد حسن فقي) في إندونيسيا.. فالأستاذ جميل الحجيلان في (الكويت) قبل أن يختطفه الإعلام - من الخارجية - في سنوات معمعان الخلاف مع زعيم القومية العربية الراحل الرئيس جمال عبد الناصر.. إلى أن عاد إلى الخارجية ثانية في سفارته الطويلة والملهمة التي حملته لأن يكون عميد السلك الدبلوماسي في عاصمة النور والحرية: باريس.. فالشاعر الأستاذ محمد الفهد العيسى في (سوريا)، الذي كان يُسمّي نفسه بـ (الفهد التائه) عند نشره لقصائده الغزلية الموغلة في جرأتها.. فالشاعر الأستاذ حسن عبد الله قرشي في (السودان).. فالشاعر الأستاذ سعد البواردي في (لبنان).. فالكاتب الأستاذ محمد عبد القادر علاقي في قنصلية (لوزان) السويسرية.. فالكاتب الصحفي الأستاذ عبد اللطيف ميمني في (إيران).. والكاتب والإعلامي الكبير الأستاذ عباس غزاوي في (ألمانيا).. فشاعرنا وإعلامينا الجميل الدكتور عبد العزيز خوجة في (المغرب) و(روسيا).. فشاعرنا الكبير والطليق - المأسوف عليه - الدكتور غازي القصيبي في (البحرين) فـ (بريطانيا) على التوالي.
لقد كان الكاتب والأديب والفنان الأستاذ (عبد الله حبابي).. الذي فقدناه يوم السبت - ما قبل الماضي - والذي تسابق دموعي الآن كلماتي التي أكتبها عنه.. من بين هذه الكوكبة من الأدباء والشعراء والكتّاب الذين استقطبتهم (الخارجية) منذ تخرجه من كلية التجارة - قسم الاقتصاد والعلوم السياسية -، ليستغرقه العمل الدبلوماسي وفضاءاته ولقاءاته ومؤتمراته.. الأمر الذي جعله يضع (قلمه) في جيبه، ويخفي ريشة (عوده) الذي تعلم العزف عليه خلال سنوات ابتعاثه.. بعيداً عن أنظار أقرب المقربين إليه حتى لا تطغى شهرة الأديب أو الفنان - إن تحققت له إحداهما أو كلاهما - على مكانة (الدبلوماسي) ونجاحاته، وهو ما تحقق له - ليكون الدبلوماسي السعودي الواسع الصدر والعقل والباسم على الدوام، الذي لا يُستغنى عنه.. لتطوف به حقيبة الدبلوماسية قارات العالم الست باستثناء قارة (أستراليا)..!!
* * *
لقد حملته حقيبته الدبلوماسية إلى (طهران) أولاً.. فـ(القاهرة فـ(الجامعة العربية).. فـ(واشنطن).. فـ(كراتشي).. فـ(أوغندة) عيدي أمين، لتستقبل سفارته - التي افتتحها - الملك فيصل عند قدومه إليها ضمن جولاته الإسلامية، ومحاولاته استرجاع العواصم الإسلامية الأفريقية من يد النفوذ الصهيوني المتغلغل هناك.. آنذاك، فـ (أفغانستان).. ليشرفني بين تلك التنقلات الدبلوماسية التي كانت تأتي به إلى أرض الوطن بين الحين والحين بـ (زيارة) تعرُّفٍ على (مجلة اقرأ) ومن فيها.. لا يقدم عليها إلا كاتب وأديب وفنان كالأستاذ السفير: عبد الله حبابي.. الذي كنت أسمع عنه كثيراً قبل أن أراه، والذي كان كلما ذُكر اسمه.. في أي من مناسبات صوالين جدة ومجالسها أحاطه السامعون بالكثير من الحب والتقدير له والاعتزاز به.. كواحد من نماذج الوطن المشرفة، لكن تلك السويعة لم تدم.. إذ أخذته سفارته إلى (البرازيل) في أقاصي الأرض.. لعشر سنوات متتالية، أشعلت حنينه وأشواقه إلى الوطن وأرضه بصورة جارفة.. إلى (مكة) وحرمها وأهلها وصداقاتها.. وإلى (جدة) وخارجيتها ومجتمعها وأماسيها، لكن ورغم الانشغالات التي وجد نفسه فيها - بعد التقاعد - مستشاراً لوزير الحج والأوقاف الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع.. وعضواً بـ (مجلس الشورى).. إلا أنه أخرج قلمه من صمته الطويل، ليكتب في معظم صحف المنطقة الغربية.. القريبة منه مكاناً: في البلاد وعكاظ وفي المدينة.. وتحت أكثر من عنوان: (دبلوماسيات) و(وهج ورماد) و(أناس وأحداث).. ليفاجئ الوسط الثقافي والصحفي خصوصاً بمستواها وطرحها ولغتها الصحفية والبيانية الناصعة الراقية.. وليفاجئني - على المستوى الشخصي - في واحد منها بثلاث مقالات عن كتابي (إمبراطور النغم)، الذي أصدرته الهيئة العامة المصرية للكتاب بعد وفاة موسيقار الأجيال: الأستاذ محمد عبد الوهاب، والذي لم أكن أتصور أنه على علم به.. فضلاً عن اقتنائه وقراءته.. بل والتعليق عليه بتلك المقالات الضافية التي أمتعتني بقدر ما أفادتني من (مرجعيته) في حياة الأستاذ عبد الوهاب وفنه الباذخ، ثم ليفاجئ الجميع بأن (ريشة عوده) التي أخفاها في بداياته.. تظهر ثانية بعد تقاعده ليدندن على عوده لنفسه ولخاصة خاصته، ثم ليفاجئ حضور إحدى أمسيات (الثلوثية) بعد الانتهاء من مطارحاتهم الأسبوعية حول قضايا اليوم والساعة، وبناء على طلب صاحبها (أبي الشيماء).. وهو ينشد الجميع على عوده رائعة (شقي) وألحان الأستاذ عبد الوهاب: (مضناك جفاه مرقده / وبكاه ورحم عوده).. لأكون من خاصته ومحبيه ومريديه المترددين على منزله بصحبة صديقنا المشترك الأستاذ سامي خميس.. شفاه الله وعافاه.. حتى اكتشف سر ذلك الإجماع الذي كان يحيرني.. على (محبته)، فلم أجد غير بساطته وصراحته الفوارة، وشفافيته النادرة، وقلبه الذي لا يحمل حقداً ولا ضغينة على أحد..!!
* * *
ولكنه.. وخلال سنوات تقاعده القليلة الماضية.. ورغم العناية المنزلية المفرطة التي كانت تحيطه بها وبضيوفه حرمه السيدة الفاضلة (فريدة سلامة): سيدة الذوق الرفيع.. وفنانة النقش على (السيراميك)، الذي تعلمته وأتقنته في سنوات سفارته الطويلة لـ (البرازيل)، و(المحبة) الدافقة التي كان يغدقها عليه أبناؤه (وائل وعمار وياسر).. إلا أنه فوجئ - كما فوجئ الجميع من حوله - بعارض صحي، ألزمه الاعتماد جزئياً على (كرسي متحرك) في تنقلاته البعيدة.. لكنه - ولله الحمد - لم ينل من روحه المعنوية، ولا من تفاؤله واستبشاره وقدرته على متابعة ما يكتب وينشر ويذاع.. وتلبية دعوات حضور المناسبات الاجتماعية والثقافية بل وإقامتها والدعوة إليها في منزله، وهو ما دعا صديقنا العزيز المشترك (سامي خميس) وقد كان له برنامجاً إذاعياً أسبوعياً من إذاعة جدة.. هو: برنامج (الفن وأهله).. ليصطحب (ميكرفونه) ذات مساء إلى منزل الأستاذ الحبابي لتسجيل حلقتين من حلقات البرنامج معه بحضور عدد من أصدقائه ومحبيه.. عن الأستاذ عبد الوهاب: (فناناً) و(أستاذاً) من أساتذة (الكلمة) المنتقاة و(الحوار) الممتع، وقد تم تسجيل الحلقتين بأعلى درجات النجاح، وأذيعتا في حينه.. لتعاد إذاعتهما أكثر من مرة بناء على طلبات المستمعين والمستمعات واتصالاتهم الهاتفية، وهو ما يدعوني اليوم لأن أتوجه برجاء إلى مدير عام إذاعة جدة الصديق العزيز الأستاذ سمير بخش.. لإعادة إذاعة الحلقتين (تقديراً) لمقدم البرنامج (الأستاذ سامي خميس)، الذي أبعده اعتلال صحته عن مواصلة تقديمه.. و(تذكيراً) بضيف الحلقتين السفير (عبد الله حبابي)، الذي كان رحيله.. مفاجأة لم تكن على البال والحسبان!!
فقد كان.. في آخر ظهور عام له في حفل السحور الذي يقيمه عادة الشيخ حسين بكري قزاز كل عام في إحدى ليالي النصف الأول من الشهر الكريم.. بأحد مطاعم كورنيش الحمراء، ويحضره رجال السلك الدبلوماسي في جدة.. إلى جانب رجال الأعمال والإعلاميين ووجوه المجتمع أكثر بهجة وسعادة وتفاؤلاً.. وعلى عكس المتوقع، بل كان.. وكأنه يسير على قدميه، وأنه لم يعان قليلاً أو كثيراً.. في الصعود إلى الدور الثاني - بكرسيه المتحرك - دون مصعد!!
لقد ضحك تلك الليلة كثيراً وسط سعادة الحاضرين بوجوده بينهم.. وأطلق آراءه في حب فلان وفلان كعادته وبـ (شفافيته) المعروفة، ليخبر الجميع.. بأنه سيغادر إلى (لندن) بعد أيام العيد لقضاء إجازة الصيف هناك. أما على المستوى الشخصي.. فقد أبرمت معه اتفاقاً على استئناف لقاءاتنا بمنزله بحضور من يتاح من الأصدقاء.
وجاء العيد..
وسافر المصطافون إلى لندن.. وعاد الجميع إلا (هو).. فقد تأخر.. وتأخر.. إلى أن جاءنا خبره الدامع غير المنتظر.!!
فيا حرقة القلب عليه.. ووداعاً: دبلوماسيُ الكلمة والنغم..!