حكاية صحفي يمني في سجون «الحوثيين» ">
أصدقاء السجن
- كان أول من علم بخبر وصولي إلى السجن المركزي «عمي الطبيب»، سمعت صوته من شباك السجن يناديني، انطلقت إلى البوابة، وهناك رأيته، وعيناي مثقلتان بالدموع، وجهي شاحب منهك: أرأيت يا عمُ كيف يفعلون بي، أنا ارتجف خوفاً، هذا السجن ليس لي؟!، أمسك ذراعيّ وهزني بقوة، كان يصرخ بوجهي: كُن شجاعاً، لا تبتئس هذه أساليبهم وطرائق حُكمهم المشؤوم، سوف تلعنهم الدنيا كلها، لا تضعف!، ثم أعطاني مالاً وقاتاً، وغادر!.
- عُدت إلى الزنزانة، وجاء أخي الكبير «فواز» فخرجت إليه، شاهد آثار القيود وجراحها على معصمي، كنت رثاً، ومنكسراً، أشعر بالألم، وقهر الرجال، واساني بكلمات عصمتني من البكاء مجدداً، وأنا الذي تفر الدموع من عينيه سريعاً، أشبه أمي في عاطفتها وبراءتها التي فارقت الحياة على يد مبضع جراح مخمور أسكت مشاعرها وآلامها إلى الأبد، وكان عليها ألا تموت في تلك السن المبكرة، إنها في القبر وأنا في القبو، هو حرف واحد لا يعني الحياة.
- ذهب «فواز»!، كان «محمد دشيلة» يقضي أغلب أوقاته على سرير حديدي بسبب إصاباته البليغة التي تعرض لها في السابق قبل أن يدخل إلى السجن بتهم أدت إلى حبسه ثلاثة عشر عاماً، قضى منها إلى الآن تسع سنين عجافاً، كان السرير الوحيد في السجن، حوله يجتمع رفاق زنزانته في أوقات متفرقة، تعرفت إلى: مصطفى الوادعي، محمد حليس، منير حفظ الله، كانوا أقرب أصدقائه، جلست معهم، التهمت القات بشراهة على غير عادتي، كنت قلقاً، عائلتي لا تعرف عني شيئاً إلا أني في السجن، والحوثيون ينشرون أوراقاً مطبوعة يوزعونها بشكل مكثف في الشوارع وأحياء المدينة، يقولون إني لص! وكانت هذه أغرب تهمة من جماعة لا تفعل شيئاً إلا السرقة، والنهب والقتل!
الحلقة الثالثة
- طلبتُ هاتفاً من أحد رفاق السجن الجُدد، واتصلت بزوجتي: قلت لها ما يطمئنها عني، وكانت تشد أزري بشجاعة أدهشتني تبقيني أكثر تماسكاً وإيماناً بعدالة قضيتي، هي أقوى مني في الخطوب!، شَرَحت لي بلا توقف كيف سمعت نبأ اختطافي، وكيف انهارت في ردهة المنزل، وأسعفت إلى المشفى القريب، وحولها طفلايّ «عُدي وقُصي» يبكيان أباهم المخطوف وأمهم المغشيّ عليها، وشقيقاتي الست ينتحبن خوفاً من تصفيتي جسدياً، ووالدي الملتاع يلاحقني من مبنى إلى آخر، أراد أن يعرف ملامحي، أين أنا؟!، ولا أحد أنبأه بمكاني، الحوثيون عصابة وقحة وفاشية، لا تهتم بترويع الأُسر، ومقدار الألم الذي تغرسه على جدار العائلات اليمنية.
-كان الاتصال طويلاً.. صاح ابني «عُدي» ذو الثمانية أعوام: كيف أجدك يا أبي!، سقط سؤاله كسائل حارق في جوفي، بدد آمال الخروج من قبو الحوثيين القذر، سأعود يا بُني..!، وأغلقت سماعة الهاتف!
- اليوم هو الأطول إذ تعرفت إلى بقية أفراد الزنزانة، عز الدين، المرامي، نهشل، كنت السجين رقم «815» في سجن بُني على نفقة الحكومة العراقية في نهاية الثمانينيات خُصص لاستيعاب مئتي سجين على أعلى تقدير، لكنها النيابة - لا غفر الله لها -، تُراكم القضايا والأحداث كما تشاء أن تفعل بارتزاق مذهل لا يقدر عليه إبليس اللعين.. فتتكوم القضايا ويطول سجن المساكين ويُقهرون على تفاهات يمكن لأي رجل قانون يحترم وظيفته ألا يدعها تصل إلى السجن أو أن تظل حبيسة أدراجه وأوهامه وشعوره الزاهي بأن يُصبح ظالماً مختالاً، حتى وصل عدد السجناء إلى أكثر من 950 سجيناً، ينامون بجوار بعضهم مثل أعواد الكبريت قابلة للاشتعال.
- بعد منتصف الليل، اتصل بعض السجناء ببعض، وتلقى عدد من نزلاء زنزانتي اتصالات من رفاقهم في الخارج، وصل خبر اقتيادي إلى السجن المركزي المواقع الإخبارية الإليكترونية، جاءت التوصيات من رفاق طيبين أكثر شهامة من كل الذين عرفتهم سابقاً، قام «عز الدين المقدشي» بوضع وسادة تحت رأسي، و»منير حفظ الله» سمح لي بالنوم في مكانه، و»البيزنطي» - وهو اللقب الشهير لمحمد حليس - يضحك من لا شيء، ويقفز ممتلئاً بالمروءة؛ يُجهّز مقعداً لي، وفمه ممتلئ بالقات عن آخره، يضحكون، وهم متهمون بالقتل، أجبرت نفسي على الابتسامة في غرفة تعج بالقتلة الطيبين!
- أطفأ الجميع أنوارهم، وخلدوا إلى الفراش إلا أنا!، حاولت أن أنام، ما استطعت، كنت قلقاً، خرجت إلى الحمام، توضأت.. وسجدت طويلاً، كانت كل صلاة أؤديها تمنحني شعوراً هائلاً بالاطمئنان، لم أشعر أني أسمع الله، وأحس به قريباً إلى جواري إلا في أيام سجني الظالم، كانت لي رحلة جميلة، صرت روحانياً، خلوت إلى نفسي وصلواتي كثيراً، حتى علّق البعض قائلاً «اتق الله، نحن قتلنا نفساً بغير نفس ولم نركع هذا الركوع ولا هذا السجود»، صار الليل بطوله مكاناً للقيام والدموع بين يدي الله، كل الرفاق السمان الذين عرفتهم تلاشوا كسيجار يحترق، قهروني؛ أضاعوني وأي فتىً أضاعوا، لا يزال الجرح غائراً في داخلي، الدموع وحدها تغسل آلامي وأحقادي، وتبقى ذاكرتي منتعشة على تلك الأيام والأسابيع الظالمة، لا أريد أن أنسى، ولأجل هذا كتبت، وسأظل أكتب عن الهاشمية الحوثية، عن الحق المقدس الذي يتربص به هؤلاء الغزاة على اليمنيين الطيبين، وكيف صادروا حقوقنا، وأكلوا ثروتنا، ونهبوا تاريخنا، وسعادتنا، يجب أن نقرأ جميعاً عِبر الأيام التي سبقت ثورة 26 سبتمبر المجيدة 1962م، وبطولات ما بعدها، وخيانة «صالح» لها ولوحدتنا التي يتحدث عنها كحارس لا شريك له، ولم يكن لديه مبرر واحد لممارسة هذا الاغتصاب الجماعي على شعب أثقلته أيام نظامه، فكافأه بمثل هذا الجحيم المتلهب، حِمم المجانين الدمويين القادمين من مجارير التاريخ اللعين، وقد تراءت لهم أضغاث أحلامهم في منامٍ غير طاهر!، صعدوا من «صعدة» بسلالم أمنيات عائلة من «سنحان» غادرها الحُكم والسلطان، فعادت مع من جاء إلى الرئاسة ضعيفاً، وشارداً لا يأمن جنديه الذي يحمي ظهره!
- في أول صباح بسجن الحوثيين، ظهرت الشمس على عيني التي لم تعرف الخلود منذ أيام، تناولت الفطور مع أصدقائي الجُدد، وبدأ المنادي يصيح باسمي ويطيل حرف الألف، اسمه «فهد العمراني»، مسجون منذ أعوام لا يذكرها على قضية بيعه لبندقية حكومية مع ثلاثة متهمين آخرين كان نصيبه منها أربعة وستين ألف ريال يمني بما يُعادل خمسمائة دولار تقريباً، لم يدفع عنه أحد لإخراجه من السجن، ولا يعرف شيئاً عما يدور في الخارج سوى أنه بارع في إنشاء الحسابات الوهمية بشبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك لاصطياد المغفلين وإيهامهم بالحب والعشق لإرسال بطاقات شحن إلى هاتفه.
- غرفتي باعتبارها أفضل غُرف السجن، إلا أنها ضيقة، ومليئة بالبراغيث التي كانت تتقافز إلى كل شيء، حتى طعامنا لم يكن خالياً من هذه الحشرات التي تتغذى على العَرَق!، لم أستطع الاختلاط في الأيام الأولى بالكثير من السجناء، كنت أشعر بفداحة جرائمهم، إلى أن وجدت بينهم صديقي الأول في السجن: مروان الرباحي، شاب نحيل الجسد، له عينان مُشِعّتان، وفكان بارزان وابتسامة أنيقة، وكان متهماً بنهب سيارته!، تهمة أضحكتني كثيراً، لم يكن أمامه سبيل إلا استعادتها من عضو النيابة «محمد بغزة» الذي رفض تسليم ثمنها، فانتزعها منه «مروان» بالقوة.. ولهذا السبب سجنوه، وخرج بعد ذلك بشهر واحد، دعاني إلى البقاء في زنزانته التي تُسمى (زنزانة طربوس)، وبها 36 متهماً بالقتل، منهم من صدر بحقهم أحكام إعدام، وسمُيّت هكذا نسبة إلى الشاب الأربعيني والشاعر الشعبي الفذ «عبد الجبار طربوس» وهو متهم بقتل شيخ قريته الذي قتل والده وعمه، ورغم ذلك لم يعترف القضاء بمظلمته واستحقاقه للثأر من قاتل أبيه، وزُج به في السجن إحدى عشرة سنة وصدر بحقه حكم إعدام، ما زال ينتظر تنفيذ منذ سنتين، «طربوس» شاب كريم وقوي ومحبوب، له صولات وجولات عنيفة داخل السجن، شارك في أعمال شغب عديدة، متزعماً تمرد السجناء في 2011م، وقد قُبض عليه فوق دراجة نارية كانت تنتظره خارج السجن بعد أن تمكن من الفرار إلا أنها تعطلت فجأة!
- نتج عن تمرد «طربوس» ورفاقه مقتل أكثر من 13 سجيناً بريئاً بعد أن أطلقت قوات الأمن المركزي النار عليهم مباشرة، وزُجّ بأكثر من ستة عشر متهماً في السجون الانفرادية الموحشة، التي لا تتسع لأكثر من شخصين، ومثل هذه السجون بُنيت معزولة عن السجن الكبير على الأطراف من الناحية الشرقية، وعددها أربعة زنازين قذرة وممتلئة بأبغض الحشرات المقززة!، لا ينال السجناء فيها سوى وجبة واحدة في اليوم مكونة من «فخذ دجاجة مسلوقة وأرز فقط» لعدد أربعة أشخاص في كل زنزانة!
- في السجن غرف تُسمى أقسام أو عنابر عديدة منها: المدرسة، العيادة، التوبة، الشريعة، الإعدام، الاستقبال، وفي الوسط يوجد الجامع الذي يقوم على خدمته شاب مهذب يُدعى «إبراهيم الصيحي» - يشترك بتهمة بالقتل غير العمد، مع ابن عمه «مروان» الذي يدير دكاناً للمواد الغذائية داخل السجن، ورغم قرار الإفراج عنه منذ عامين إلا أنه اشترط الإفراج عن ابن عمه «إبراهيم»، كان مدهشاً في تصرفه النبيل ووفاءه الذي ما وجدته في أحد، حتى أني كنت - دائماً - أُذكّر «إبراهيم» بذلك، وأحثه على أن يبادله الوفاء بمثله.
- أغلق السجان زنزانتي قبل قليل، صوت مزلاج الباب الحديدي يثقل أنفاسي، أشعر بالاختناق وبأن محبسي الكبير يضيق بي، كمن يكتم أنفاسي بوسادة عريضة، وعبثاً أصارع البقاء!. بعد صلاة العشاء يزور زنزانتي جندي الحراسة للتأكد من استيفاء العدد المسجون في كل قسم، يمر علينا ويسجل على ورقة كرتون بيضاء عدد السجناء، ويسأل عن أي مفقود لم يتواجد في مكانه وقت الإغلاق المحدد كل ليلة حتى صلاة الفجر!
- أنا في «عنبر القتلة» أو «عنبر طربوس» وهو مكان كبير كديوان مقيل تتجاور على أرضيته قطع إسفنجية طويلة وبالية، لكل سجين قطعة منها، ينام عليها ويتناول القات فوقها، وقد تكومت أغطية النوم ولُفّت بشيلان قديمة لجعلها متكئاً في مقيل العصر، يقوم بمهام الخدمة اليومية لكل زنزانة شخص يدعى «طُلبة» وهو وصف شائع هنا يعني «الخادم»، في مقابل السماح له بالأكل والشرب وتناول القات والنوم كأحد أفراد الزنزانة، الحياة رخيصة جداً بداخل السجن، اشترى «الطلبة» شالاً لمتكئي بمئتي ريال ما يُعادل دولاراً واحداً فقط، الدجاجة المسلوقة تباع بدولارين!، وكأس الشاي بعشرين ريالاً، إنها الجنة!
- تتكدس زنزانتي كل يوم بعشرات المخزنين الذين تعودوا سماع حكاياتي عن أسفاري، ومواقفي ونوادر الحياة وقضايا السياسة وتعقيدات الوضع المحلي الراهن، أراهم ينصتون متفاعلين، أقرأ عليهم مقالاتي الجديدة التي أدوّنها في دفاتري، وأسمعهم يضحكون لذكر أسمائهم، ويسألون متى تنشر هذه المقالات السردية؟، وأعدهم أن يحتويها كتاب أنيق عن تفاصيل السجن وأيامه ولياليه الملأى بالصراصير والألعاب والصلوات!
- هنا تتعلم كيف تبتسم لاقتراب يوم إعدامك!، فبعد صلاة الجمعة الرابعة تحدث خطيب السجن «إبراهيم» عن فضائل العفو والتسامح، ليقول لنا أن «هيثم» الجالس بيننا سيساق بعد يومين إلى ساحة الإعدام ويرجو من له حق أو مظلمة أن يقتصها منه الآن!، قام السجناء المصلون يعانقونه، وارتفع صوتي بينهم «الله يسامحه» وذهبت إليه ممازحاً: لا أعرفك، لكني أسامحك!، عانقته بود.. كان مبتسماً ومشرقاً وعلى جبينه زبيبة السجود، وقد سمعت أنه يحفظ القرآن عن ظهر قلب، والسجناء يحتشدون حوله يودعونه كمن يغادر إلى الحج!
- سُجن «هيثم» قبل ست سنوات بتهمة القتل وأصدر قاضي التنفيذ حكماً بإعدامه، عمر طويل من الانتظار والتقاضي انتهى بتأكيد إعدامه رمياً بالرصاص، فيما تغلبنا أمانينا بالعفو عنه من أولياء الدم، وقد احتشد كثيرون بداخل زنزانتي في عصر تلك الجمعة للمقيل معه، راقبته.. وسألت نفسي، بمَ يشعر الآن؟ هل يرتجف؟ إن الذين يجلسون معه ويخزنون ويضحكون يتصرفون على أنه عريس يزف إلى عروسه!، أحدهم يلمز قائلاً: اللي بعده!، كناية عن استعداد المحكوم بالقصاص لرصاص الموت، تحدثوا ضاحكين عن اسم الميت القادم وكأنهم يتحدثون عن لقاء عاشقين!، لقد تعودوا توديع رفاقهم إلى العالم الآخر، يترقبون صوت رصاص الإعدام، فإن كانت، غضبوا قليلاً وانتهى الأمر باستمرار حياتهم المحاصرة بالأسوار والوجوه المكررة، وفي مقيل العصر يتفاكهون ويحددون من التالي!، كانت فرائصي ترتعد إذا عرفت أن وفداً حوثياً جاء إلى السجن لأمر ما، أخشى أن يأخذوني إلى حيث لا يراني أحد، وهؤلاء يضحكون عشية إعدامهم! يا لبأسهم!
- كانوا أمامي يلعبون الورق، وأحجار الدمنة، بعضهم يُصلي وآخرون يتلون قرآن الله، وأنا أنصت لصوت أنثى من السماء، اسمها «لينا شاماميان» تغرد بموشح أندلسي مُسكر.. وفي فمي قات تخمّر، صرت ثملاً وعلى يدي قلمٌ أحمر وأوراق، أكتب خواطر السجن والمساء.. أدون النقاط وتفاصيل اليوم والأشخاص والأسماء.. أكتب كل شيء.. ثم أنام.
- هواء السجن رطبٌ بارد، ورائحته قوية، الأرضية حجرية، وحولي 36 قاتلاً، يا للروعة!، كثيرٌ منهم ينتظرون تنفيذ القصاص، أربعة أعدمهم السياف «حيد أبوه» الذي قال: إنه من قرية تجاور قريتنا، كان يعدم أصدقاءه!، يتناول القات معهم في أوان العصر إلى المساء، ويستيقظ في الصباح سعيداً ومتحمساً بدم جديد يريقه بأمر القضاء، وبجواره أسرة المجني عليه تنتظر خروج الجاني لإعدامه، وتتدخل الوساطات وفاعلو الخير للعفو عنه، لم يعد أحدٌ ممن خرجوا حياً، قُتلوا أمام عيني، وكنت أراقب من شباك السجن مفاوضات العفو، ورجاء الوساطات المحلية، وأشيح بوجهي، ثم أسمع صوت ثلاث رصاصات وأحياناً أربع، كنت ضعيفاً جداً، المزيد من التهديدات الطائشة تصل إلى غرفتي، جنّد الحوثيون عدداً من السجناء ينقلون إليهم أخباري. العزي هكري، وعلي المرامي القاتلان الخطيران هما عين الحوثيين عليّ، اكتشفت ذلك بالصدفة، كانا يراقبان زياراتي، وأحاديثي مع السجناء، وتصرفاتي، وكل شيء، وفجأة أصيب «دشيلة» بانهيار مفاجئ في حالته الصحية، تقيأ كل شيء في جوفه، وعلى الفور اتصلت بعمي الطبيب، شرحت له أعراض حالته، فأرسل على دراجة نارية بعض الأدوية الإسعافية اللازمة للتخفيف عنه، ولكن حالته ساءت، وأسعف إلى المشفى العام بالمدينة وسط حراسة مكثفة، فأشاع الحوثيون أني قمت بتسميمه، وجاءت النيابة إلى السجن برفقة أطباء متخصصين، فحصوا الأدوية التي أعطيته إياها، وتأكدوا من سلامتها، وخابت مكيدة الحوثيين في إلصاق تهمة جديدة لي بالقتل غير العمد، أرادوا إبقائي سجيناً بالقدر الذي يجعلني قتيلاً بأي طريقة، ويمحو من أذهان الناس اسمي؛ لتغيب مع تراكم الحياة البائسة أصوات المدافعين عنيّ.
- بعد مغادرة «دشيلة» من الزنزانة إلى المشفى الخارجي عُدت إلى زنزانته رئيساً لها ومسؤولاً كالآغا عمن بداخلها من السجناء، أقوم برعايتهم والاهتمام بهم، ورثت عن «دشيلة» سريره الحديدي وعصا الخيزران التي يُعاقِب بها من يتلفظ خارج حدود الأدب، كانوا يطلقون عليّ لقب (العم)، ونضحك وأنا أعاقبهم، لم أكن صارماً كسلفي الشهم، تقاسمت كل عطايا الزائرين وهداياهم مع سجناء الزنزانة النبلاء، وضعت نظاماً صارماً للصلاة والأكل والنظافة وتعريض فُرُشنا للشمس مرتين في الأسبوع، كانت الوجبة التي يقدمها السجن تافهة ومقرفة كعادتها، وكانوا يسعدون بما أقاسمهم من الطعام الذي ترسله إليّ عائلتي، لا سيما الغداء المكون من: لحم وأرز وخبز أسمر وفتة بالعسل، وكانت «بنت الصحن» كيوم الجمعة مرة واحدة في الأسبوع، وكنت أُبقي على فتة العسل إلى ما بعد القات، مع نصف ثلاجة شاي بالحليب والرز والهيل!.
- كُنا نتمترس بعد صلاة العشاء فوق سريري الجديد، كأيام «دشيلة» الرائع: مصطفى الوادعي، محمد نهشل، منير حفظ الله و(البيزنطي)، البريء كفيل ودود في الأدغال، وإذا رفت الساعة السليمانية على أجفاننا، كان خدر القات داعياً للصمت والانشغال بما في أيدينا، أحضرت روزنامة ورق، قلم، أكتب كل يوم مقالاً تقريباً، ثم أدفعها إلى أخي الذي يتولى طباعتها وإرسالها إلى زملائي في المواقع الإليكترونية، حتى تمكنت من إدخال هاتفي خِلسة كبقية السجناء بعد مرور 38 يوماً على سجني، كتبت في ذلك اليوم منشوراً على صفحتي في فيس بوك وتويتر مُعلناً ظهوري بعد تلك الأيام الطويلة من الغياب القسري.
- مات «دشيلة» الطيب بعد خمسة أشهر من المعاناة، وسبب وفاته غامض، يقول أحد أصدقائه: إنه أصيب بجلطة دماغية، وقبل خروجي من السجن بأيام ذهبت إلى زيارته في عيادة السجن الطبية - وهي مبنى مهجور ومعزول عن السجن العام، وفارغ من أي أدوية أو معدات - كان المسكين جالساً يهذي ويتحدث بكلمات غير مفهومة، وكلما حاول أن يتذكر اسمي يضغط على رأسه بأصابعه، ويقول: أنت الأستاذ! الأستاذ، ثم يصمت ويمتد على فراشه، كان يغمره إجهاد العائد من سفر طويل، أسند رأسه إلى جدار الغرفة، وأغمض عينيه، خرجنا من غرفته وقد قرأنا الفاتحة سبيلاً لشفائه.
- خرج صاحبي المسجون منذ 13 عاماً «حسان غوقان»، وكنت أخبرتُ فاعل خير يدفع عنه دية القتيل الذي قتله، خرج قبل أسبوعين من إطلاق سراحي، وقبل انحسار الشمس، كنت واقفاً على باحة السجن.. أراقبه مبتسماً، يتعثر أمامي في خطواته نحو البوابة الحمراء.. يرتجف، ويسألني: كيف تكون ذمار؟ إلى أين وصل الأسفلت؟، وفي الصباح عاد إلينا بفطور والدته!، يضحك كمخلوق جديد ويرقص أمام جنود السجن ويتحداهم ضاحكاً: لن أدخل إلى زنزانتي، ويُخرج لسانه الطويل.. فيضحكون ونضحك!.
.. يتبع
- سام الغباري