د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الملاحظ على كثير من الأحاديث المتداولة على ألسن الناس في المجالس أو المسطّرة بأقلام الكتّاب حول الخدمات الصحيه أنها تترجم القضيّة إلى مسلّمات مقطوع بها مثل: نقص الخدمات أو سوء الإدارة أو طول قوائم الانتظار أو الواسطة، أو جشع القطاع الخاص وارتفاع أجور خدماته؛ وأما
الحلول فإنها تختزل في تخصيص الخدمات الصحية الحكومية والتأمين الطبي لجميع المواطنين. لا شك أن الشكوى لها ما يبرّرها، لكنّ الحلول المقترحة بهذا التعميم المطلق ليست قادرة على إزالة الشكوى، لأسباب ليست خافية على أحد وهذه أهمّها:
- تخصيص الخدمات الصحية -في حدّ ذاته- يستدعي تطبيق التأمين الطبي الشامل، بدافع القضاء على الجشع وارتفاع الأسعار، وتحمّل تكلفة العلاج من طرف ثالث. أي أن الجمهور نفسه الذي كان يشتكي من الزحام وطول المواعيد وسوء الخدمة انتقل بقضّه وقضيضه من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص، فهو سيعود إلى مواجهة مشكلة الزحام وطول المواعيد، وبدلاً من الواسطة يواجه مشكلة الطبقية بين من يشملهم التأمين العام بأقساطه المنخفضة وإجراءات الدفع البطيئة، ومن يشملهم التأمين الخاص بأقساطه المرتفعة وإجراءات الدفع السريعة أو الذين يدفعون مباشرة. بهذا يتحوّل النفع المأمول إلى ضرر بالغ، وعلى المرضى تدور الدوائر -لا سمح الله-.
- مقدّم الخدمة في القطاع الخاص يريد بالطبع إرضاء المستفيدين، ولكن ليس على حساب الربح الذي هو محرّك استثماره. ولن يقدّم خدمة لا يكسب من ورائها. وقد تسيطر على بعض مقدّمي الخدمة الرغبة في مضاعفة الربح أو تحاشى الخسارة إمّا بالمبالغة في بعض الخدمات، أو بتقديم خدمة قاصرة، لا سيّما إذا اعتبر هذا البعض الخدمة الصحية مجرّد سلعة جودتها متعلقة بثمنها ارتفاعاً وانخفاضاً.
- خدمات الرعاية الصحية لا تنطبق عليها قوانين السوق كالسلع التجارية -إن شئت اشتريتها أو تركتها- فهي ضرورية لا بدّ من الحصول عليها، ليس فقط لمصلحة الفرد المستفيد، بل أيضاً لمصلحة المجموع، فالغياب عن العمل أو العجز عن الإعالة، أو الإصابة بمرض معدٍ أو بإعاقة، كلها ذات تأثير على المجتمع.
هل يعني هذا أن فكرة الخصخصة لا نفع منها ولا جدوى؟.. أبداً، ليس هذا هو الرأي، بل الأصح أن فيها منافع للناس، إذا أحسن اختيار مجال التخصيص القادر على تحقيق هدفه الاجتماعي. هذا الهدف يتمثّل في إبعاد الخدمات الصحية عن البيروقراطية والمركزية، وجعلها متاحة وميسّرة للجميع وباعثة لرضا المستفيدين من المرضى والباحثين عن الوقاية أو الكشف المبكّر عن الأمراض. فلا يجب فهم التخصيص على أنه نقيض للتأميم فحسب، أي أنه مجرّد تخليص الخدمات من مقدّم الخدمة الحكومي ونقلها إلى مقدّم خدمة خاص، بل هو عملية تنظيميه يُراد منها الاستعانة بوسائل القطاع الخاص في تحقيق أهداف النظام الصحي العام. لذا يمكن التخصيص في المجالات التالية، ولكن كيف؟..
أولاً: تقديم الخدمات العلاجية:
المستوى الأول: الرعاية الأولية، وهي التي يتلقاها المراجع (المريض أو غيره) في المركز الصحي «مركز طب الأسرة» المجمع الطبي الخاص. لقد بيّنت الاستطلاعات الصحفية وبحوث مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني والرئاسة العامة لتعليم البنات.. أن مجتمعنا ينتقد المراكز والعيادات الحكومية فيما يراه من عدم ملاءمة أوقات الدوام والازدحام وتباعد المواعيد وتواضع الأداء والخدمات. ويفضلون مراجعة القطاع الخاص لانتفاء هذه العوائق وسهولة مقابلة الإخصائي وتوافر الإمكانيات التشخيصية في المجمعات الطبية الخاصة، لكنهم يشتكون من غلائها واستغلال أصحابها حاجة المرضى، ويتمنٌون لذلك التأمين الصحي العام. بإلقاء نظرة سريعة على الإحصاءات الرسمية (الكتاب السنوي لوزارة الصحة 1435هـ) نجد أن عدد المراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة في المملكة يبلغ (2280) مركزاً، يعمل بها (9300) طبيب. أمّا عدد المجمعات الطبية الخاصة فيبلغ (2412) مجمعاً يعمل بها (18000) طبيب (وهو رقم يبدو كبيراً، لكن حوالي الثلث منه هو لمجمعات وأطباء الأسنان!). وعند النظر إلى التوزيع فإن المجمعات الطبية الخاصة وأطباءها تتركز في المناطق التي يوجد بها مدن ذات كثافة سكانية عالية. ففي المنطقة الشرقية (الدمام وما حولها) ومنطقة الرياض ومحافظة جدة -وهي التي تضمّ نصف سكان المملكة- يوجد 62 % من المجمعات الطبية الخاصة (وزارة الصحة 28 % من مراكزها الصحية)، و70 % من أطبائها (وزارة الصحة 30 %). هذه المناطق تضمّ أيضاً النسبة الأكبر من غير السعوديين، ولكن ذلك لا يفسّر كثرة المجمعات الخاصة وأطبائها، بل يؤخذ في الاعتبار أيضاً أن نصف عدد مراجعي المجمعات الخاصة هم من السعوديين. هنا يكون إذن المجال الخصب للتخصيص، من خلال ضمّ خدمات الرعاية الأولية الخاصة (أي المجمعات الطبية) نظامياً ورسمياً إلى شبكة الخدمة العامة واعتبارها مثل المراكز الحكومية مراكز لطبّ الأسرة ترتبط بها العائلة من خلال ملف ثابت -انظر مقال: نظامنا الصحي على مفترق الطرق في (الجزيرة) 16 أكتوبر-. الجدوى من ذلك تتضح من الآتي:
- الاستفادة من العرض الوافر من المرافق الخدمية والقوى العاملة الذي بحوزة القطاع الخاص.
- تلبية رغبة السعوديين في مراجعة القطاع الخاص للحصول على خدمة بعيدة عن البيروقراطية والازدحام وطول مواعيد الإخصائيين وتواضع الخدمات - وهي الشكوى المعتادة.
- قيام وزارة الصحة بإعادة توزيع وتحسين خدمات مراكزها الصحية.
- توحيد مرجعية الملف الصحي.
هناك بالطبع عوائق يجب إزالتها، لا سيّما في التنظيم والتمويل. فلتفعيل هذا النوع من التخصيص لا بدّ من إقرار نظام للتسجيل العائلي، وأن يكون التخصيص مبنيّاً على أساس تعاقدي بين الوزارة والمجمع الطبي، تُحدّد فيه معايير الجودة ومستوى ونوعية الخدمة ومعدّل عدد المسجلين لكل طبيب ونظام الإحالة للمستشفى أو للاستشاري ثمّ الإفادة الراجعة، واستمرار متابعة الحالة وغير ذلك. أمّا التمويل فسوف يأتي الحديث عنه بعد تناول موضوع المستوى الثاني في الخدمات العلاجية -المستشفيات- في المقال القادم.