د. أحمد الفراج
الولايات المتحدة الأمريكية دولة قامت على العدل والحرية والمساواة قبل أكثر من قرنين من الزمان، ولئن كانت في بداية نهوضها ارتكبت أخطاء جسيمة؛ إذ كانت هذه القيم النبيلة حصراً على الرجل الأبيض، فقد لاحقت الحكومات المتوالية سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر، وحاولت القضاء عليهم؛ فقد كان الرجل الأبيض يستقصد قتل حيوان البافلو، الذي يتغذى عليه الهنود. وهناك قصص يندى لها الجبين عما تعرض له الهنود، الذين انتهى الأمر بهم إلى العزل في محميات خاصة بهم، وهي المحميات التي تشبه أحياء دول العالم الثالث، ويتم توفير الكحول فيها؛ وذلك للقضاء عليهم بشكل بطيء. ولم يسلم السود من مصير مماثل؛ فقد كانت سفن العبيد تأتي من إفريقيا في ظروف قاسية جداً؛ إذ يموت معظم هؤلاء الأفارقة الذين أُحضروا قسراً في عرض البحر، وربما مَن يموت يعتبر أكثر حظًّا ممن يصل سالماً، ويتم بيعه في أسواق النخاسة في ولايات الجنوب العنصرية، وينتهي بهم الأمر مماليك، لا يملكون من أمرهم شيئاً، ويعيشون في أطراف المزارع في أكواخ خشبية، ربما تكون أكواخ الخيل أفضل منها ألف مرة.
الغريب أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم الرؤساء الكبار (جورج واشنطن، جون آدمز والمفكر توماس جيفرسون)، كانوا يؤمنون إيماناً مطلقاً بقيم الحرية والعدالة، وبنوا دولتهم الجديدة باستلهام هذه القيم. هذا، ولكنهم كانوا نتاج عصرهم، وهو العصر الذي كان فيه الرق أمراً شائعاً ومقبولاً في كل أنحاء العالم. ويذكر المؤرخون أن بعض هؤلاء الساسة كان لهم موقف أخلاقي من استعباد البشر، بل إن بعضهم ارتبط بعلاقات حب مع جواريهم من النساء الإفريقيات، بل أنجبوا منهن!! لكن كل هذا لم يمنعهم من امتلاك المئات من العبيد، رجالاً ونساءً، وقد كان هؤلاء المستعبدون يعملون في المزارع الشاسعة، وتحديداً مزارع القطن والتوباكو والقمح. أما المحظوظ منهم فقد كانوا يعملون في البيوت. ومثلما أن هناك قصصاً مروعة عن معاملة البيض للسود في ذلك الزمن الغابر إلا أن هناك قصصاً إنسانية أيضاً؛ ففي كل زمن هناك موقفان مختلفان من القضايا المنافية لقواعد السلوك الإنساني، ولكن التاريخ يسهب في ذكر الجوانب المظلمة؛ لأنها في الغالب هي التي تكون شائعة، وتغيب معها كل الجوانب المشرقة الأخرى. ومع كل هذا التاريخ الطويل من الظلم والقهر إلا أن الولايات المتحدة بذلت كل جهد ممكن، حتى تم إقرار قانون تحرير السود، وتبعه بعد قرن آخر قانون الحقوق المدنية. فلنحاكم أمريكا كما هي الآن، لا كما كانت منذ قرون؛ لأننا لو حاكمناها على ماضيها فستحاكمنا هي على ماضينا، وهذا قد لا يكون في صالح الجميع!