د. خالد محمد باطرفي
قد تساعد قراءة التاريخ والاستعانة بعلم النفس في تفسير العلاقة التركية-الروسية. فنحن أمام مسرح سياسي تتنازع البطولة فيه شخصيتان استثنائيتان، تمثلان شعوب شديدة الاعتزاز بحضارتها وتاريخها.
بعد استقلال روسيا الاتحادية وانفراط عقد الاتحاد السوفيتي، انتقلت البلاد فجأة من الماركسية إلى الرأسمالية. وأدى التخبط الذي وقع فيه الرئيس السابق بوريس يلستن في التسعينات الميلادية أثناء تخصيص المؤسسات الحكومية المنتجة وإعادة هيكلة الدولة والجيش، إلى تراجع كبير في إنتاجية البلاد ومكانتها الدولية واستقرارها الداخلي. ونشأت نتيجة لهذه السياسات طبقتان الأولى فاحشة الثراء، من الرأسماليين الجدد، والمافيا، وأغلبية تحت خط الفقر. واضطرت الدولة إلى إرتهان إرادتها لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنوك الغربية مقابل قروض مكلفة ومشروطة، بالكاد تكفي لدفع الرواتب واستيراد القمح والمنتجات الاستهلاكية.
وفي مايو من عام 2000 سلم يلستن السلطة إلى ربيبه، العقيد السابق في الاستخبارات السوفيتية، فلاديمير بوتن، الذي تمكن خلال 14 عاما من حكمه رئيسا، فرئيسا للوزاء، فرئيسا مرة أخرى، من بناء «روسيا الجديدة»، وهو الاسم الذي أطلقه القيصر «الخامس» بطرس الأكبر (1682-1725) على إمبراطوريته بعد توسيعها وتطويرها. ولولا المقاطعة الاقتصادية والإشكاليات التي ترتبت على أزمة أوكرانيا، لكانت روسيا بوتين أقرب إلى حلمه القيصري.
وتركيا مرت بحالة مشابهة. فالإمبراطورية التي بناها سلاطين بني عثمان عبر مئات السنين، تقلصت حتى أصبح اقتصادها في الثمانينات والتسعينات يعيش على القروض الدولية، وإدارتها تعاني من التجاذبات الحزبية، والفساد، والانقلابات العسكرية.
وكما سعى بوتين في مطلع القرن الجديد لاستعادة أمجاد القيصرية، جاء أوردغان عام 2003 ليعيد لبلاده أمجاد السلطنة العثمانية. واستطاع خلال 12 عاما من رئاسة الحكومة مرتين، فرئاسة الجمهورية، أن يخرج بلاده من سجن الديون، ويعيد بناء الدولة والاقتصاد والصناعة والجيش، ويقترب بها من حلم استعادة المجد التليد. وكما بوتين، يفخر أوردغان بإنجازاته والمكانة التي حققها لنفسه وبلاده، ولن يسمح لكائن من كان أن يذل هذا الكبرياء.
واليوم نشهد في لعبة الأمم مواجهة بين أباطرة، كانا من الحكمة أن تناسوا ثلاثة قرون من الصراع بين بلديهما، وعملا على بناء جسور التعاون الاقتصادي والتنموي في عهديهما، قبل أن يقعا في مأزق الخلاف الأخير.
بوتين الذي ربح كل حرب خاضها (الشيشان، وأبخازيا، وجورجيا، وأوكرانيا) ووسع إمبراطوريته في كل مرة، كما فعل رمزه الأعلى، بطرس الأكبر، يقامر اليوم بغزو سوريا لدعم نظامها المتهاوي، وحماية مصالحه الإستراتيجية والاقتصادية فيها، وإثبات أنه رقم صعب في المعادلة الدولية، وإجبار الغرب على إعادة حساباته في أوكرانيا، وكسب الرأي العام الداخلي، بدغدغة المشاعر القومية.
وأوردغان الذي يدفع فاتورة ثقيلة لاستضافة ملايين اللاجئين، وحماية حدوده، ومواجهة المليشيات الكردية والإرهابية، يواجه أيضاً خصميه التاريخيين، الصفوي الفارسي والقيصري الروسي.
وزاد الطين بلّة أن روسيا تقصف حلفاء تركيا من المعارضة المعتدلة، والأقلية التركمانية، ذات الأصول التركية، وهي التي احتلت بعذر حماية عرقيات روسية أجزاء من أبخازيا وأذربيجان وأوكرانيا.
كان لا بد أن يقود هذا التوتر إلى شرارة تشعل فتيل الصراع، وهذا ما حدث عندما انتهكت قاذفة روسية الأجواء التركية. فوفقا لقواعد الاشتباك الدولية، والتي تم تذكير روسيا بها مرارا، فإن سلاح الجو سيسقط أي طائرة عسكرية لا تستجيب للتحذير، بدون الرجوع إلى القيادة. كما فعلت روسيا نفسها عندما أسقطت في الستينات طائرة تجسس أمريكية، وكما فعلت إيران في 2011 و 2015، ولم تحتج أمريكا. وكان على بوتين أن يلتزم الصمت أيضاً، أو يفسر الانتهاكات التي تكررت مؤخراً، ويعتذر عنها بدلاً من خسارة المزيد من المصداقية بتكذيب الطرف الآخر واتهامه بما ليس فيه والتعامل برعونة مع الموقف.
يبدو أن صراع الأباطرة لم يبدأ بعد، وأن التصعيد سيستمر، فلا السلطان أوردغان سيعتذر، ولا القيصر بوتين سيصمت. وسيواصل الدب الروسي الجريح بحثه عن كبش فداء للورطة السورية.