محمد بن عيسى الكنعان
خلال ثورات ما يُسمى الربيع العربي، وبعد وصول أحزاب إسلامية إلى السلطة، سواءً برئاسة الحكومة، أو بالغالبية البرلمانية كما حدث في تونس ومصر والمغرب، فضلاً عن سيطرة حزب العدالة والتنمية في تركيا ذي الخلفية الإسلامية على المشهد السياسي التركي، ومواصلة فوزه
بالانتخابات البرلمانية لمدة 13 عاماً، مع احتفاظه بكرسي الرئاسة؛ أقول خلال ذلك وبعده بدا مصطلح (الإسلام السياسي) أكثر المصطلحات السياسية رواجاً واستخداماً في النوافذ الإعلامية، والمنابر الثقافية، والمواقع الإلكترونية؛ للتعبير سلباً أو إيجاباً في وصف الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية، التي صارت تمارس العمل السياسي بشكل ملفت، سواءً بتحولها من الدعوة الإسلامية، أو العمل الخيري، أو لديها أجنحة سياسية، أو نشأت كأحزاب مستقلة بسبب الظروف السياسية والتحولات الفكرية في المنطقة العربية بعد تراجع التيارات والأحزاب القومية، والعلمانية، والليبرالية، وفشلها في أكثر من بلد عربي في إدارة الحياة السياسية والاجتماعية وتحسين الأوضاع الاقتصادية.
لكن السؤال هنا؛ هل مصطلح (الإسلام السياسي) سليم فكرياً ومقبول شرعياً ومعقول منطقياً؟ في ظل الرؤية الشرعية الصحيحة لعلاقة الدين بالسياسة في الإسلام. هذا المصطلح الذي وصفه الدكتور فهد العرابي الحارثي رئيس مركز (أسبار للدراسات والبحوث والإعلام) في حوار تلفزيوني بأنه: «مصطلح مضلل»، يُعبّر عن موقف علماني من الإسلام، وقد قال به الغرب في وصف الجماعات والحركات الإسلامية، التي ظهرت بشكل لافت في خلال القرن الميلادي الماضي، وراحت تشكّل أحزاباً سياسية، فالموقف العلماني الغربي من الإسلام يستند أساساً على رؤية مختلة بمعاملة الإسلام كالمسيحية، مع استحضار التاريخ الكنسي (الديني)، وكيف تسلطت الكنيسة خلال القرون الوسطى على الإنسان الأوروبي، من خلال السياسة، وتحالفات أقطاب النظام الإقطاعي آنذاك. هذه المعاملة الغربية ترى الإسلام ديناً فقط، عبادات مكانها المسجد، وأخلاقاً مكانها الضمير، بينما الإسلام دين كامل ومنهاج حياة شامل، عبادات ومعاملات، شريعة وعمران، والسياسة تنضوي تحت المعاملات في الإسلام. وليس المطلوب أن يكون رجال السياسة فقهاء شريعة، أو يكون علماء الدين رجال سياسة وقادة أحزاب، إنما العبرة في المرجعية الحضارية، التي تحكم العملية السياسية بأن تكون إسلامية، بحيث تكون تشريعاتها وقوانينها مستمدة من الشريعة الإسلامية ومصدرها الوحي (قرآن وسنّة)، أما ما يتعلق بالمشترك الإنساني من منتجات مادية، وتقنيات، وطب، وصناعة، ونظم إدارية وغيرها، فالمهم ألا تتعارض تطبيقاتها مع الشريعة.
العلمانيون العرب من قوميين ويساريين تداولوا هذا المصطلح في صراعهم السياسي وجدالهم الفكري مع الإسلاميين، ولاحقاً أصبح هذا المصطلح لا يفارق خطاب الليبراليين العرب بمن فيهم ليبراليو الخليج والسعودية؛ وذلك تعبيراً عن رفضهم واستهجانهم لممارسة الإسلاميين العمل السياسي. فرجل الدين - كما يرون - لا يجب أن يعمل بالسياسة. بحجة حماية الدين من أوساخ السياسة. وهم بذلك يتبنون الموقف الغربي العلماني تماماً شعروا بذلك أم لم يشعروا. فمقولة أو مصطلح (الإسلام السياسي) يعني أن هناك إسلاماً بلا سياسة. وكما قال فهد العرابي الحارثي بلهجة دارجة: «علشان نمارس سياسة نبطل إسلام».
هذا من ناحية التضليل الفكري لهذا المصطلح الغربي، أما من ناحية الأزمة الفكرية في التعامل معه، التي تحكم الخطاب العلماني، سواءً كان ليبرالياً، أو يسارياً، أو قومياً؛ فتعود إلى أن أصحاب هذا الخطاب ينطلقون من فكرة أن الديمقراطية، هي أصلاً من أبرز منتجات الحضارة الغربية في جانبها السياسي، وأن الإسلاميين من دعاة وشرعيين ومشايخ كانوا (يكفرون) بالديمقراطية بحكم أن أساسها الفلسفي يقرر أن: «حكم الشعب للشعب» بما يتعارض صراحة مع حكم الشريعة. وأن تحولهم الفكري من تكفير الديمقراطية إلى القبول بها، وممارسة آلياتها الانتخابية يُعد محاولة التفاف عليها؛ لهدف السيطرة على الحياة السياسية، ثم تحويل الدولة المدنية إلى دولة ثيوقراطية (دولة يحكمها رجال دين)، ولهذا يصفون الحركات والأحزاب الإسلامية بـ(الإسلام السياسي). وهذا صحيح من جهة وباطل من جهةٍ أخرى، فالصحيح أن هناك فعلاً إسلاميين كفروا بالديمقراطية وما زالوا، أما الذين قبلوا بها فهم يقبلون جانبها التطبيقي (حق الاختيار والانتخاب) وليس أساسها الفلسفي (حكم الشعب)، لأن الديمقراطية بالأساس هي آلية، أو أداة لاختيار الأفضل. ولأن الأحزاب العلمانية بجميع تشكيلاتها قد تراجعت أمام الأحزاب الإسلامية في أكثر من بلد عربي، فقد تحول صراعها السياسي إلى صراع فكري بين التيارات الإسلامية والعلمانية الحاضنة لتلك الأحزاب. فتم ترويج هذا المصطلح (الإسلام السياسي) المضلل لضرب مشروعية ممارسة الإسلاميين للعمل السياسي، كي تخلو الساحة لهم.