زكية إبراهيم الحجي
إذا أردتُ أن أبيعك بضاعتي فيجب أن أتحدث لغتك.. وإذا أردتَ أن تبيعني بضاعتك فعليك أن تتحدث بالألمانية «مقولة للمستشار الألماني الأسبق (ويلي براندت)».
لم تأتِ المقولة السابقة من فراغ.. ففي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي نشبت في الولايات المتحدة الأمريكية حربٌ لغوية أُطلِق عليها حرب المعاجم.. وفيها استعرت المنافسة التجارية في مجال اللغة وأسفرت عن التأكيد على استقلال أمريكا والحفاظ على هويتها من التأثر غير المحدود ببريطانيا العظمى وألمانيا وغيرهما من دول أوروبا، وبذلك شكلت المنافسة التجارية عاملاً حاسماً في استتباب اللغة الإنجليزية الأمريكية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل شهدت انتشاراً كاد يطغى على اللهجات التقليدية.. وبذلك بقيت العلاقة بين الاقتصاد واللغة الإنجليزية في نمو مطرد عالمياً.
السؤال: لماذا لا نطبق المفهوم المادي للاستثمار في اللغة العربية، فهو حق مشروع لمن أراد أن يستثمر، لاسيما أنه سيمثل امتداداً لطريقة الأسلاف في تجارة لم تبر كونها لغة القرآن الكريم ولغة العلوم والآداب الإسلامية.. ولطالما عرف التاريخ على امتداد أحقابه استثماراً في لغة الضاد ونشر آدابها وعلومها وثقافتها والمحافظة عليها.. فقد شهد العصر الأموي تعريب الدواوين في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وذلك عندما أمر بنقل الكتابة في دواوين الدولة من اللغة الرومية إلى اللغة العربية.. وبذلك كان الأمويون أول من أسس لتكريس اللغة العربية وعدم إقصائها لصالح لغات الشعوب الأخرى من فارسية ورومية وغيرها.. أما العصر العباسي فقد شهدت الدولة العربية الإسلامية تشجيعاً لترجمة العلوم والمخطوطات والمؤلفات من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي.. فكان العصر العباسي عصر الاستثمار في اللغة العربية.. فيه شهد الاستثمار في لغة الضاد نمواً ذائع الصيت في مجال المكتبات خاصة مكتبة دار الحكمة التي أُسست في عهد الرشيد.
الاستثمار في اللغة العربية هو استثمار لبناء المستقبل، فالأمم بلغاتها.. وتقدم الشعوب لا يقتصر على مجال الاقتصاد والصناعة والعلوم والتكنولوجيا فحسب بل يشمل اللغة الثروة الوطنية والكنز الفريد.. الاستثمار في لغتنا العربية هو نموذج للاستثمار بالإنسان في المقام الأول، وآثارها تتضح تدريجياً في التنمية العلمية والثقافية في المجتمع.. هو استثمار لا يهدف إلى ربح بقدر ما يهدف إلى حماية وحفظ اللغة العربية من التهميش أو الإقصاء وتمكينها من الحضور في السياق العالمي والمحافل الدولية.. واعتمادها في البحوث العلمية، شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى.. الربح فيها يُقاس بربح الأمة لهويتها والاعتزاز بها.. والخسارة فيها تُقاس بانكفائها وإقصائها أو تشويهها بمفردات دخيلة أو عبارات تشي بالجهل والتدني اللغوي.
اللغة العربية عنوان هويتنا الثقافية وميزان نهضتنا الحضارية.. ومما يثلج الصدر حقيقة ويسعدنا كثيراً أن هناك أكثر من مؤشر على أن اللغة العربية بدأت تشهد إقبالاً لافتاً من غير العرب ومن غير الناطقين بها.. بل تزايدت وتيرة الإقبال في أعقاب أحداث 11 من سبتمبر، وهذا ما أشارت إليه دراسة أمريكية قامت بها جمعية اللغة الحديثة «ام إل أي»، تحولٌ عميق واهتمامٌ منقطع النظير تجاه الإقبال على تعلم اللغة العربية.. هذه المعطيات الجميلة تجاه لغة الضاد تستلزم منا أن نميط اللثام عن جوانب مهمة لاسيما في المناطق التي تعج بالجاليات المسلمة وكذلك الدول التي تربطها معنا علاقات سياسية واقتصادية وطيدة أن ننطلق لإنشاء معاهد متخصصة لتعليم لغة الضاد، فالعولمة الثقافية بقدر ما تضع من تحديات أمام اللغة العربية إلا أنها تمنحها الكثير من الإمكانات التي تساعدها على النهوض، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نلوم لغتنا أو ننسب الخلل إليها، إنما اللوم يقع على الإنسان نفسه الذي تعوزه قابلية الفرص الهائلة التي تتيحها العولمة.