محمد أبا الخيل
تحدَّثت في مقال الأسبوع الماضي عن ضعف البناء الشمولي لمحور تنمية الموارد البشرية في خطة التنمية التاسعة، مما خلق خللاً هيكليًا في التعليم التأهيلي بصورة عامة جعلت معظم الخريجين متخصصين في علوم أدبية وإنسانية غير مناسبة لسوق العمل، مما جعلهم يعانون عسر في التوظيف، واليوم في مقالي هذا سأتحدث عن التعليم العالي وسياسة التوسع في استيعاب مزيد من الطلاب في تخصصات غير مناسبة لسوق العمل، وغير مؤهلة لعمل منتج لقيمة مضافة، مع أن الرؤية المستقبلية لوزارة التعليم العالي قبل دمجها بوزارة التربية والتعليم نصت على «تعليم جامعي ينافس على الريادة، ويسهم في بناء المجتمع المعرفي ويلبي متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية» ولكن بالنظر لواقع التعليم الجامعي يتبين أن هذه الرؤية في وادٍ والواقع في وادٍ آخر.
بلغت نسبة خريجي التعليم العام المستوعبين في التعليم الجامعي في المملكة عام (2008) م (68 في المائة) من إجمالي الخريجين، أكثر من (60 في المائة) منهم ذهبوا لتخصصات أدبية وإِنسانيات وشرعية، ومعظم هذه التخصصات لا تؤهل لسوق العمل، وفي نفس العام بلغت نسبة الطلاب المستوعبين في التعليم الجامعي في الولايات المتحدة (42 في المائة) من مجمل الطلاب المتخرجين من التعليم العام أكثر من (60 في المائة) منهم ذهبوا لتخصصات علمية وهندسية أو مهنية، في بريطانيا بلغت نسبة المسجلين بالجامعات البريطانية في التخصصات العلمية والطبية والهندسية عام (2009م) (55 في المائة) من إجمالي المسجلين، وفي الصين يتم الآن تحويل (600) جامعة من تقديم برامج نظرية وأدبية إلى أكاديميات مهنية (بوليتنيك) وفنية تخرج مهندسين وفنيين في عدة موضوعات عملية.
المقارنة السابقة توضح الفرق بيننا وبين البلدان التي تتبع إستراتيجية بناء مجتمع منتج، فنحن ننتج خريجين بلا تأهيل مهني أو تهيئة كافية لخوض غمار العمل المنتج، لذا لا فرص مجدية أمامهم سوى العمل الحكومي فنجد المتقدمين للوظائف الحكومية بالآلاف، وفي البلدان التي ذكرت آنفًا، لا يمثل العمل الحكومي إغراء للسواد الأعظم من الخريجين، وهذا لا شك خلل إستراتيجي في منظومة بناء الموارد البشرية وذلك في الجانب التأهيلي العملي، فالتعليم العام وخصوصًا في المراحل الأخيرة يجب أن يكون مؤثرًا في بناء ثقافة تنموية لدى الطالب وأن يجعل الطالب واعيًا لمستقبله المهني بحيث يستطيع استشراف ذلك والاستعداد عند التخرج لاختيار التعليم ما بعد الثانوي الذي يؤهله لعمل منتج يضمن له وظيفة مجزية.
إن دمج التعليم العالي بالتعليم العام في وزارة واحدة له فائدة في بناء إستراتيجية تعليم تأهيلي متصلة الحلقات وتحت إشراف واحد، ومع أن أحد القرارات المؤثرة بعد الدمج كان في إلغاء التعليم الموازي في الجامعات السعودية، الذي كان يقدم فرصة لعدد كبير ممن لديهم الطموح في تحسين تأهيلهم العلمي وهم على رأس العمل، وكان الأجدى هو تحسين واقع التعليم الموازي بدلاً من إلغائه، أو ترشيده بحيث يحصر في موضوعات محددة، لذا وحتى لا تصبح عملية بناء كفايات الموارد البشرية السعودية سلسلة من القرارات المنفردة، لا بد من وجود جهاز مركزي يضع إستراتيجية تنمية الموارد البشرية بحيث يتم النظر بشمولية لمخرجات مراحل التعليم بصورة تخدم حاجة سوق العمل لموارد بشرية وطنية قادرة على منافسة الموارد البشرية الوافدة وتحقيق جودة نوعية في المنتجات الوطنية.