د. محمد عبدالله العوين
يا طالما ساءلت نفسي في لحظات صفاء ذهني نادرة مسترقة من ضجيج الأحداث وزحمة المفاجآت وتتابع الغرائب والعجائب وتقلب الأحوال والمفهومات: هل نحن أبناء هذا الجيل محظوظون بما يسرته لنا الحضارات الغربية والشرقية من اكتشافات علمية في الطب والمواصلات والاتصالات والمعمار، وما أسعدتنا به تلك العقول من فرص المعرفة والتثقيف والاطلاع على العالم كله دون حاجب ولا رقيب ؛ حيث كنا نحن في تلك السنين قبل سبعة عشر عاما أو تزيد لا يمكن أن نحصل على كتاب مختلف عن السائد في أمر صغير أو كبير إلا بعد مشقة ومتابعة مع إدارة المطبوعات بعد أن تحال من المنفذ إلى المسئول المختص في إدارة الإعلام الداخلي.
لقد كان حقاً من الغبن أن تحرم من كتاب اجتهدت في البحث عنه حتى وجدته بعد لأي، وكان شعورا مقلقا أقرب ما يكون إلى استرخاص الذات حين يقر في وجدانك أن إنساناً مثلك من بقية البشر رأى أن يعلمك كيف تفكر وماذا تقرأ وما يصلح وما يضر، ربما تصل إلى قرار لا شك لك فيه أن من يسمح لك أو يمنعك يملك عقلاً أكبر من عقلك وصلاحا وزهدا وتقوى لا يمكن أن تجاري ما وهبه الله له منها، فلا عليك إلا أن تذعن وتشعر بأنك دونه بمسافة كبيرة، فلا سبيل لك إلا أن تقرأ ما يجيز، كما أن عليك أن تنتهي عما ينهاك عنه ويختم عليه بكلمة «ممنوع»!
زمنا عشناه بمغامراته وتحديه، ولعل في ما كنا نبذله من جهد جهيد للوصول إلى المعرفة قدرا كبيرا من الشعور بمتعة الانتصار ودافعا قويا للإقبال على قراءة ما حققنا الانتصار فيه، متوافقا مع القول السائر «كل ممنوع مرغوب».
هل كان حظنا في تلك السنين التي تسبق زمن عصر القرية الكونية الذي نعيشه اليوم سيئا بما كان يحاصره من ضعف وسائل الإعلام وقصور وسائط المعرفة وضيق أفق المجتمع في تقبل الجديد؟. أم أن الأمر كان على خلاف ما يثيره هذا السؤال من إحساس بالشفقة على أبناء تلك الأجيال ؛ فهم المحظوظون حقا براحة البال، وهم الذين ملؤوا أوقاتهم بما أثراهم وأغناهم معرفة وعلما وأدبا، فصحت عقولهم، واتسعت معارفهم، وعلت هممهم، وزادهم شح المصادر وضيق سبل الوصول إلى المعرفة شغفا بها وغراما بتجلياتها ؛ وكان ذلك دافعا قويا لأن ينشئوا لهم في بيوتهم مكتبات خاصة حافلة بالتليد والجديد، وأن يكون همُّ كثيرين منهم ماذا وصل إليك ؟ وما آخر ما قرأت ؟ فيدور الكتاب الجديد النفيس أو الممنوع حسب رؤية الرقيب لكلمة أو لسطر أو لعنوان أو حتى لاسم المؤلف نفسه بين القراء المشغوفين بالقراءة من يد ليد!
هل كنا محظوظين بذلك الزمن الذي نتجلى فيه مع محاضرة علمية أو أدبية أو أمسية شعرية ؛ فنعود إلى مهاجعنا وكل كلمة قيلت في تلك الأماسي الجميلة الهادئة في مركز الفوطة أو مسرحها أو في قاعة كلية الشريعة واللغة العربية تعود مترنمة من جديد بصوت الملقي أو بتصفيق الحاضرين وكأنها لا تريد أن تبرح الآذان؟!
هل كنا محظوظين بأن آذاننا لم تتلوث بالنقيق والزعيق والكلمات المخنثة والأجساد المائعة التي تتلوى ؛ فلا تعرف المذكر منها ولا المؤنث، ولا تفرق بين حنجرة رجل أو نعومة أنثى!
هل كنا محظوظين بقامات مفكرين وزعامات أدباء وأناشيد عروبة ودعاة وحدة وآمال قومية تتلجلج في صدر كل عربي حر، لم تنل منها بعد الانكسارات المتوالية ولم تهزمها بعد مخاتلات المؤامرات على الأمة باسم دين الخوارج الدواعش أو باسم دعاة الحرية والكرامة!.
هل كنا محظوظين بزمن عربي كان أقصى وأشد خيباته فلسطين ؛ بل ربما كانت خيبته الوحيدة التي لم تتوالد بعد ولم تتناسل إلى عشرات الخيبات والجراح والانقسامات والحروب الأهلية، لم يكن لنا ولا لغيرنا من أبناء العروبة قضية أخرى آنذاك غير فلسطين!
كم فلسطين تنز بيننا اليوم، وكم جرح ينزف بيننا هذه الساعة؟!
من المحظوظ بعد؟!.