حمّاد السالمي
«لم أطأ الأرض التركية غير مرة واحدة ضمن وفد رسمي في العام 1985م. ولا يربطني بتركية- تركيا- اليوم؛ غير قهوتها ذات النكهة النافذة (Turkish coffee)، ثم قراءاتي لتاريخها، ومتابعة ما يجري من متغيرات وحوادث فيها وحولها؛ خاصة في الفترة الأخيرة التي أصبحت تركيا فيها طرفًا في الصراعات العربية العربية.
«حالي هذه هي حال ملايين السعوديين والعرب، وبعض المسلمين الذين ينظرون إلى الجمهورية التركية من منظور إسلامي بحت، أخذ يتلاشى في العقود الأخيرة شيئاً فشيئًا. قليل جدًا من السعوديين والعرب؛ ينظرون إلى هذا البلد الذي كان مركزًا للخلافة العثمانية طيلة ستة قرون؛ من منظار حزبي بحت، فهم من روادها، ومن المعجبين برئيسها (طيب رجب أردوغان) وحكومته، الحكومة التي يؤخونها المتآخونون غصباً عنها، ولهؤلاء فيها صولات وجولات، ولهم مساجلات ومفاكهات، وكذلك مسابقات وركوب خيل وليل..!
«كتبت عن تركيا قبل اليوم وقلت: بأنها في سياستها الخارجية تحديداً؛ تشبه الغراب الذي أعجب بمشية الحمامة، ثم أراد أن يقلدها، فضيع مشيته هو ولم يتقن مشية الحمامة..! فهي دولة انقسمت على نفسها سياسياً منذ عقود مضت على شاكلة انقسامها الجغرافي بين آسيا وأوروبا، فلا هي شرقية ولا هي غربية، والتيارات العلمانية التي قادتها في السابق؛ والتي تُسيّر سياسة حزب العدالة والتنمية اليوم، أرادت الصاقها بالمجموعة الأوروبية سياسياً وعسكريًا واقتصاديًا، فامتثلت لكثير من الإملاءات التي لم تثبت جدواها، فقد كشفتها حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي أثارت كثيرًا من الأغبرة فوق رأس أردوغان وحكومته، وبدت المجموعة الأوروبية غير مكترثة لما يجري من تصعيد وضغوط روسية ضد تركيا، إضافة إلى الكشف عن مواقف تركيا من الحالة السورية، فهذه المواقف كانت منذ خمس سنوات وإلى اليوم؛ مريبة. أو هي غامضة؛ إذا ما أردنا تخفيف الأمر.
«إنه بغض النظر عن حادثة الطائرة وحق تركيا في الرد؛ فهذا شأن يخص السيادة التركية، لكن ما إن ظهرت روسيا على خط الأزمة؛ حتى اختلطت أوراق تركيا من جهة فهمها للإرهاب؛ ومفهومها للتحالف ضد الإرهاب.
«من السهل معرفة الأدوار التركية القديمة والجديدة في حماية حدودها الشرقية والجنوبية، أولًا من خطر حزب العمّال الكردستاني (PKK)، الذي يشكل الفهم التركي للإرهاب ومفهومها في التصدي له، ثم سكوتها ودعمها- ربما- لما جرى من تقزيم وإضعاف للدولة العراقية نتيجة للتدخلات الصفوية الإيرانية، وإيران تلتقي مع تركيا في مواجهة الكرد أينما كانوا. وعندما بدأت الثورة السورية غير المحسوبة حقيقة؛ ظلت تتفرج على التمزيق الحاصل على أيدي الجماعات الإرهابية، ومنها داعش وجبهة النصرة التي تمثل القاعدة، بل إن حدودها مع سورية أصبحت بوابات سهلة لدخول الإرهابيين القادمين من البلدان العربية وأوروبا وأميركا وروسيا، وحتى خروجهم إذا أرادوا، فكل الذين شكلوا قوة داعش والنصرة وغيرها من جماعات إرهابية، جاءوا من الأراضي التركية تحت بصر وسمع الحكومة التركية، وهذا حاصل حتى اليوم، وتحت أنظار العالم، ولم نجد دولة حليفة في الحرب على داعش- حيث اختارت تركيا أن تنأى بنفسها عن هذا التحالف- تثير هذه المسألة مع تركيا، وهذه الوضعية المريبة حقيقة؛ شبيهة بما كان يجري من بوابة دمشق قبل الثورة، من تسهيل لدخول وخروج الإرهابيين إلى الأراضي العراقية تحت نظر وسمع حكومة بشار في تلك الفترة، حتى تمزق العراق، ثم تمزقت من بعده سورية.
«كثير من المعجبين والمتحمسين العرب للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركي؛ لهم أسبابهم الخاصة بهم، فالسيد أردوغان بدأ حياته السياسية في تركيا من داخل الشعب التركي، ونجح في تطوير عشوائيات اسطنبول التي كانت تشكل عبئًا على المدينة وعلى الدولة. لقد رأيت بعيني ميدان تقسيم في قلب اسطنبول قبل ثلاثين سنة، وكانت مياه المجاري تسيح فوقه، واليوم كما يقال: هو آية من آيات جمال اسطنبول، وتبع ذلك أن نجح هذا المهندس الاسطانبولي عندما جاء بحزبه ليحكم؛ في خلق تجربة نهضوية لافتة ومعجزة تنموية لم تعرفها تركيا على مر تاريخها. هذه منجزات تحسب لرئيس وحكومة وشعب تركيا، وهي تعنيهم وحدهم، أما سياسة تركيا الخارجية مع محيطها؛ فهي مخيبة ومريبة معًا، فالانبهار بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي، ورّط بلدانًا عربية كثيرة، بعد أن قفز إلى سدتها رموز حزبية إخوانية؛ ظنوا أن تركيا معهم، وأنهم سوف يخلبون ألباب شعوبهم كما حدث مع الداخل التركي، لكن تركيا ظلت وسوف تظل مع مصالحها في محيطها، ومن مصالحها: ديمومة التخوف من جيرانها العرب، وحربها الدائمة مع حزب العمال، وحصر فهمها للإرهاب في عمليات هذا الحزب، وقد تستفيد كثيرًا من إطالة زمن تشرذم الجارتين: العراق وسورية، وتمد يدها لتجار النفط المسروق من الأراضي العراقية والسورية من قبل الدواعش، وتغازل التحالف الدولي المناهض للإرهاب، وتمتعض كثيراً من عمليات الطيران الروسي التي تضرب داعش والنصرة والجيش الحر وكل مناويئ لحكومة الأسد. لم تنفذ داعش ولا عملية إرهابية واحدة في تركيا..! فحزب العمال التركي هو العدو الوحيد لتركيا، ومثلها إيران وإسرائيل. إن هذه الدول الثلاث المحيطة بداعش في المركزية الإرهابية التي يستهدفها العالم كله، وتصل بإرهابها إلى عواصم أوروبية وآسيوية وأفريقية بعيدة.. هذه الدول الثلاث: ( تركيا وإيران وإسرائيل )؛ معصومات من عمليات داعش والنصرة..! وهنا يجب علينا أن نفكر جيدًا في من خلق الإرهاب هنا..؟! ومن له مصلحة في بقائه..؟! الدول التي يضربها الإرهاب..؟! أم تلك المعصومة منه..؟!!
«إن تركيا وروسيا ودولًا عربية وغربية تلتقي في سورية اليوم تحت عنوان محاربة الإرهاب؛ كل منها له فهمه الخاص للإرهاب، وله مفهومه الخاص لمصلحته في هذه المنطقة، فالكل ينطبق عليهم قول الشاعر:
كل من في الوجود يطلب صيدًا
غير أن الشباك مختلفات