د. محمد أحمد الجوير ">
لابن الجوزي (ت597هـ) والذي اشتهر في زمانه بلقب (شيخ الوعّاظ) كتاب معروف باسم (القُصّاص والمذكّرين) في غالبه، ينكر على الصوفية قصصهم المبنية على دجالات وخرافات، لم تفت خفاياها ومقاصدها على عالم كبير، كابن الجوزي، كيف لا! وهو الذي يُعتبر وشيخه علي أبو الوفاء ابن عقيل، من ألد خصوم الصوفية في عصرهما -القرن السادس الهجري- سواء كانواً عبّاداً أو زهّاداً أو غلاةّ، يحسن قبل الإبحار بموضوعنا الأساس من هذا المقال، أن نورد بعض المقتطفات من كتاب ابن الجوزي الآنف الذكر، حتى تكون دليلاً، فيما نودّ أن نعرض عليه، يقول عن قُصّاص زمانه «ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع ويستشهد بأشعار العشق، وغرضه أن يكثر في مجلسه الصياح ولو على كلام فاسد وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها».
ويقول في موضع آخر «ولئن كان المخادعون الدجالون يظهرون تحت عنوان (القصّاص) فيما مضى، أنهم يظهرون في أيامنا هذه تحت عنوان (الداعية والموجه والمربي والأستاذ والكاتب والمفكر) وما إلى ذلك من الألقاب».
وقال رحمه الله في معرض تحذيره من خطرهم «لمّا كان الخطاب بالوعظ في الأغلب للعوام، وجد جهّال من القصّاص طرقاً إلى بلوغ أغراضهم، ثم ما زالت بدعهم تزيد حتى تفاقم الأمر، فأتوا بالمنكرات في الأفعال والأقوال والمقاصد».
وأشار ابن الجوزي لكلام الغزالي (ت505هـ) صاحب كتاب (إحياء علوم الدين) في هذا الصدد الذي نصه «متى كان الواعظ شاباً متزيناً للنساء قي ثيابه وهيئته، كثير الأشعار بالحركات والإشارات ويحضر مجلسه النساء فيُحذر منه، وهذا منكر يجب منعه، فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح، ولا ينبغي أن يعظ إلا من ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيّه زيّ الصالحين».
ويقول ابن الجوزي وهو يصف حال قصّاص زمانه «ومن القصّاص من يمضي أكثر مجلسه في العشق والمحبة وإنشاد الغزل الذي يحتوي على وصف المعشوق وجماله وشكوى ألم الفراق».
ما سبق الإشارة إليه لا يعدو شذرات بسيطة من كتاب ابن الجوزي المشار إليه، وقعت عليها عيني، وإلا هو يحوي قصصاً كثيرة، لهؤلاء القصّاص، وجدتها تتواءم مع ما تنثره عقول وعّاظ هذا الزمان، وهو أيضاً توطئة لقضيتنا الأساس هنا، والتي قد سبرتها ووقفت عليها وشاهدت مشاهدها وسيناريوهاتها، حالي كما هو حال غيري، وقد رأيت أنها تشكل خطراً عظيماً على مسار الدعوة إلى الله.
لدينا من يتسمّى بالداعية، نراه لا يحبّذ أن يلحقه لقب الواعظ، مع أن ابن الجوزي على علوّ قدره، يفتخر به ولم يتهرب منه، فقد لُقّب بشيخ الوعاظ، ولم أر لقباً له باسم الداعية، ولا شك أن لقب الواعظ أقرب للواقع، ذلك أنك تعظ جماعتك وأهلك ومجتمعك المسلم وتذكرهم بأمور دينهم وما غفلوا عنه، والدعوة تكون في الغالب لغير المسلمين، فيلزم من يحبذ لقب الداعية، أن يجول بلاد العالم محتسباً الدعوة لدين الله، كل ما سبق ليس هو مرادنا بالمقال، وإنما ما نريد التعريج له، هو ما أشاهده وغيري من كثرة وتزايد «نوعيّة» من البشر، متدنّية التحصيل العلمي والثقافي، بشكل عام، ناهيك عن العلم الشرعي، الذي من المفترض أن يكون مستند وعظه الرئيس، نلحظ كثيراً من المناشط الدعوية أو السياحية أو المدرسية، تحرص على استقطاب «نوعية» من البشر تحت مظلة الدعوة أو الوعظ، بهدف الترفيه، لا يؤهلها رصيدها الشرعي للحديث وفق أصوله، لكنك تجدها تُعوّض هذا النقص بحركاتها البهلوانية وقصصها الغرامية التي اختزلتها فترة مراهقتها، تملأ ما يسمونها محاضرة بالفكاهيات الهابطة والقصص الغرامية والتي هي أحاديث لا وجود لها في الأساس، وإنما هي من نسج خيالاتها وخبالاتها، بدليل أنها لا تستطيع إثبات ما تهرف به، وأدواتها لا تتجاوز (حدثني من أثق به أو حدثوني جماعة) من هذا الذي حدثها؟ ومن هذه الجماعة؟ رأينا من يخاطب الغرائز بطريقة مجردة من الحياء، ورأينا من يتحدث بكلام لا أخلاقي وسافل، جعلوا من (الحور العين) مصائد لقلوب العامة من الشباب والفتيات، وجعلوا من المخدرات مادة لنسج أكاذيبهم وألاعيبهم على العوام، بقصد إضحاكهم، ادّعوا علم الغيب، يوم أن أقسموا بأن الملائكة تقاتل مع هؤلاء ومع أولئك، يشحنون العامة بصراخاتهم وصخبهم وحركاتهم، ورجّ منابرهم، واحمرار وانتفاخ أوداجهم، تقاطيع وجوههم وحركات أعضائهم، وزوغان أبصارهم، تفضح كذبهم ومأّربهم، ناهيك عن سبك قصصهم، التي يصطنعونها في مجالسهم، يُقدّم هؤلاء في مسارح المدارس، على أنهم النخبة أو الصفوة، وهم أصحاب السوابق وخريجو السجون ومستشفيات الأمل، ويبدو أن هذه الفعاليات، تتم وفق جهود ذاتية، وليست وفق منهج تربوي من ذوي الاختصاص، الدعوة إلى الله، أستطيع القول، دون خوف أو وجل، هي «مخترقة أخلاقياً» وبقوة من هذه النوعية «الفاشية» التي يغلب على أسلوبها الدجل والكذب حيناً، والجهل حيناً آخر، يحزّ في النفس عندما ترى هذهالنوعية، تسرق الأجواء الدعوية والوعظية من أهل الاختصاص النائمين، والمؤسسة الرسمية في غفلة أو تغافل عنها، لا ينبغي أن يتصدى للوعظ إلا رجاله المتعمّقين بالعلم الشرعي، لا من ترك لحيته وقصّر ثوبه وخضّب شعره بدهن العود، وقام يصول ويجول في المخيمات والمناشط الدعوية، بهدف إضحاك الشباب والفتيات، بقصص، تقطر غراماً وجنساً، لا أصل لها، وإنما هي على نسق، قصص، قُصّاص ابن الجوزي، هذه «مقارنة متقاربة» بين قصّاص ابن الجوزي، وقصّاصينا المتنامين بين ظهرانينا، ودعوة للجهات المعنية «الرسمية» بتدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان، والعضّ على أصابع الندم، فأبناؤنا أمانة، والمجتمع أمانة، والوطن أمانة.. ودمتم بخير.