د. خالد محمد الصغِّير
يُعدُّ «الترزز الإعلامي»كما نقول شعبياً، أو الظهور والإطلالات الإعلامية المتكررة غير المبررة أحد أبرز التوجهات الحالية على الساحة الإعلامية السعودية، وبخاصة من قِبل ربان وحاملي ألوية المسؤولية لدينا، أو بالأحرى مَن يديرون دفة الأمور في مؤسساتنا ودوائرنا الحكومية؛
إذ نجدهم يحاولون جاهدين مد جسور متينة مع الإعلام وصُنّاعه من أجل إبراز منجزاتهم -إن جاز تسميتها بذلك- أمام متخذي القرار والرأي العام، وهو حضور مكثف جعل الكثير من متابعي الإعلام، وبخاصة الإعلام المقروء، يتساءلون عن المغزى من تلك الحملات والإطلالات المتكررة على صدر صفحات جرائدنا المحلية تحديداً، لدرجة أن المرء يخال أن مكروهاً قد أصاب ذلك المسؤول حين لا يجده حاضراً في صفحات الصحف المحلية في ذلك اليوم.
لا أجد جواباً مقنعاً لهذا المنحى الذي يختطه العديد من المسؤولين لدينا اليوم سوى أنهم يحاولون إقناعنا بأنهم يستحقون المراكز الإدارية العليا التي يتسنمون ذروتها، أو أنهم يقومون بأعمال ليست من صميم عملهم؛ ولذا فهم ينتظرون منا أن نبدي إعجابنا، بل وشكرنا على جهودهم تلك التي في واقع الأمر ليست من صميم عملهم، أو لنقل لم يكن واجباً عليهم أن يقوموا بها لولا نبلهم وتفانيهم. وهم بصنيعهم هذا أعينهم أيضاً مصوبة نحو مَن يعلوهم مرتبة؛ يرتجون رضاهم، ويطلبون المزيد من الرقي والعلو، وإلا ما الدافع وراء هذا التسابق المحموم بين الكثير من المسؤولين للبحث عن مناسبة هنا أو هناك ليجد مساحة يكون حاضراً فيها من باب الغد في الصحافة، وربما يطل فيها من على شاشات التلفاز المحلية، وإن استدعت الحاجة قد يلجأ للظهور من خلال شاشات القنوات الفضائية.
كان بإمكان أولئك المسؤولين العمل بصمت يصل أثره ولو بعد حين، وسيلمس المواطن قبل ولي الأمر ثمرة عملهم وإنتاجهم ومشروعاتهم، وسيحظى المسؤولون المنتجون المخلصون في عملهم بقدر كاف من الإشادة والتقدير، وسيسعى الإعلام ليخطب ودهم ليسمح لهم بعرض وإبراز منجزاتهم وبرامجهم ومشروعاتهم التي تحققت على أرض الواقع ولم تكن فقط وعوداً وأماني وطنطنة سكبت بمداد أسود، وأفردت لها مساحات صحفية كبرى من غير أن يكون هناك واقع حقيقي يلمسه المواطن على أرض الواقع، ويشعرون معه بالفرق والتحوُّل الإيجابي الذي لمسوه بأنفسهم، ولم يكن فقط خبراً قرؤوه في الصحف عن مشروعات كبرى وهو في حقيقة أمره يحمل رسائل مبطنة يراد منها أن تصل إلى أشخاص بعينهم لعلهم يحظون بجرعات من رضاهم عنهم، وتفتح لهم أبواباً وآفاقاً مستقبلية وظيفية أسمى وأعلى من تلك التي يتربعون على عرشها الآن، ومعتقدون بتقدير غير محسوب بدقة أن نتاج الزخم والحضور الإعلامي المكثف يطغى على نتاج المخلصين الحقيقيين العاملين بصمت، ودون ضجيج ومنة على المواطن والوطن برمته.
ليت أولئك المسؤولين المفتونين بحب الظهور يعيدون حساباتهم الخاطئة ويعون أن الصحافة بشكل خاص، والإعلام بشكل عام على اختلاف وسائله وقنواته، وُجِد ليؤدي رسالة سامية لا أن يكون منبراً لتلميع الذات، وصناعة الأمجاد الشخصية الواهية، وتضخيم حجم الإنجازات، وأن المسؤول يُذكر بما عمل وأنجز عملياً بكفاءة مشهودة. وليتهم أيضاً يدركون أن المتلقي لديه من الوعي والمعرفة والإدراك ما يجعله يدرك أن ما يتم تزييفه وزخرفته إعلامياً ما هو إلا زبد سيتحول عما قريب إلى غثاء، وهو سقط متاع ستنجلي حقيقته بعد أن ينجلي المشهد الدعائي المثير. والمتلقون أو القارئون يعون جيداً أن المسؤول لم يقدم ما يشفع له هذا الحضور الإعلامي الكثيف، أو أن ما عمله ونال عليه نصيباً واسعاً من الصخب الدعائي كان ارتجالياً دون تخطيط، ومن غير استناد إلى قاعدة تضع المصلحة العامة في الحسبان، وفوق كل اعتبار.
ليت أولئك المسؤولين يدركون أن الوطن، أو بالأحرى الارتقاء بسلم التنمية الوطنية مراتب عليا، بحاجة إلى سواعد جادة تعمل ليس بالكلام، أو من خلال إطلالتها المتكررة في الإعلام، ومن خلال الأمنيات، ولهفة وراء الظهور الإعلامي، أو سرد الأحلام السرمدية، والهالات الإعلامية الجوفاء المشفوعة بعبارات مثل: (وعد وأكد المسؤول) وبجانب ذلك صورة هنا، وتصريح هناك. ولكن ماذا عسانا قائلين والوطن اليوم ابتُلي بمبدأ (يا عالم شوفوني تراني أعمل)، والمهم ليس قيمة ما أعمل وحقيقته وفائدته، وإنما صورة مع خبر ووعود جوفاء أكثر من كافية لتخزي العين، وتذر الرماد في العيون.
رجاؤنا لمسؤولينا أن يرتقوا إلى مستوى الثقة التي منحتها إياهم القيادة العليا حين اختارتهم لهذا المنصب أو ذاك، وأن يكافئوا هذه الثقة والاختيار بعمل يشوبه الصمت، ويقرن بالمثابرة والاجتهاد، وأن يعوا أننا كمواطنين ننتظر منهم عملاً جاداً لا مجرد البحث عن تلميع أنفسهم بطريقة أو بأخرى، ومحاولة الاختباء وراء تلك الدعايات والتسويق الذاتي للتغطية على ضعف الإنجاز، أو لتمرير ما لا علاقة له بالمصلحة العامة وخدمة الناس. عندئذ فقط سيذكر الناس أنكم أيها المسؤولون قد أسهمتم حقاً بجهود دؤوبة في بناء مؤسسات الدولة وترسيخ كيانها، وأنكم تفانيتم في خدمة الوطن وأهله، وعملتم بإخلاص وصدق تحت لواء الواجب من أجل رفعة الوطن ونهضته، وسيشير الناس إليكم بأصابع البنان مؤكدين أنكم مثال المسؤول المتفاني المخلص الجاد الذي يعمل بصمت وتواضع وإخلاص، ولا لشيء آخر.
فالناس والوطن والدنيا بأسرها يخلدون فقط ذكرى أولئك الذين يتركون أثراً رائعاً في الحياة وأصحاب الإنجازات والأعمال المضيئة ذات الأثر الملموس على أرض الواقع. فهل يشرق صباح الغد وقد تحوّل همّ قياديينا مِن همّ البحث عن فرص تمنحهم إطلالات متكررة لا مناص ولا مفر منها إلى هدف أسمى يتمثل في سعيهم الحثيث لترسيخ مبدأ العمل بصمت دون ضجيج، أو بالأحرى تقديم نموذج ومثال لمدرسة العمل الصامت الذي ينبغي أن يسير على مبادئه ومنواله كل مَن يتسنم رأس الهرم في مؤسساتنا ودوائرنا الحكومية؟.. أتمنى أن يتحقق في الغد القريب تحوُّل إيجابي نوعي على التساؤل المصبوغ برجاء حار ليسعد الوطن بعمل مثمر يزيد من رفاهيته وتقدمه نحو مراتب عليا من الشموخ والتطور.