د. محمد بن عويض الفايدي
صناعة القرار المناسب واقترابه من الرشد يعتمد اعتمادًا كليًا على إعمال التفكير المتعمق في التحليل، ودقة وحداثة بيانات ومعلومات مرجعيته، وكفاءة التقنية الداخلة في إعداده، ومهارة الكادر البشري الذي يؤسس له، ومحصلة ذلك كله حاضنة بحثية بأدوات عصرية تواكب التطورات
وتستقطب المتميزين من الباحثين والخبراء ذوي التجارب والمواهب.
القرار الحرج في الأزمات صناعته أكثر تحديًا، ذلك لأن مدخلاته على درجة عالية من الحساسية والسرعة والضبابية في المزج بين المتغيرات وحساب الفرص والمخاطر بمنهج علمي صارم يأخذ بالأبعاد كافة، ويراعي كل الظروف والشروط، ونتائجه حاسمة في التطبيق والتنفيذ.
جوهر القرار يتمثل في الرشد والقدرة على تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، بفكر تحليلي إبداعي يسهم في بلورة الفرص والتحديات إلى خيارات تستجيب للسياسات وتلبي التطلعات.
المقاربة بين العالم المتقدم والنامي في كفاءة وقدرة مراكز التفكير على دعم القرار يتلخص مجملها في احصاءات عام 2015م التي تصدر سنويًا عن معهد لودر التابع لجامعة بنسلفانيا الأميركية التصنيف السنوي لعام 2014م لمراكز التفكير (Think Tanks)، ومراكز التفكير عبارة عن مؤسسات تهتم ببحوث السياسات العامة، وتوفير وتحليل وعرض المعلومات بمنهجية موثوقة تستشرف المستقبل وتستشف التوجهات، وترصد المواقف، وتتوقع مسارات المشاهد، واتجاهات الأحداث، وتعين صناع القرارات على اتخاذ المناسب منها.
يُحدد التصنيف أفضل مراكز التفكير على مستوى العالم، أو على مستوى مناطق محددة، وقد شمل التصنيف (6.618) مركزاً مسجلاً لدى «برنامج مراكز التفكير والمجتمعات المدنية» (TTCSP). تم اختيار نحو 300 مركز في التصفية النهائية.
تحتل الولايات المتحدة المركز الأول بنحو 1830 مركزاً منها نحو 400 مركز في العاصمة واشنطن، ثم تأتي الصين في المرتبة الثانية بنحو 429 مركزاً، وبعد ذلك بريطانيا في المرتبة الثالثة بنحو 287 مركزاً، ثم في المرتبة الرابعة ألمانيا بنحو 194 مركزاً، والهند في المرتبة السادسة بنحو 192 مركزاً، ثم تأتي حسب الترتيب فرنسا والأرجنتين وروسيا واليابان وكندا.
في هذا السياق نجد أن مصر تحظى بالمرتبة 17 عالمياً بـ57 مركزاً، يليها الكيان الصهيوني
«إسرائيل» بـ56 مركزاً.
أما إيران فلديها 34 مركزاً، ولتركيا 31 مركزاً.
مراكز التفكير في الولايات المتحدة الأمريكية تصدرت قائمة التصنيف، حيث جاء معهد بروكينغز (Brookings Institute) في المرتبة الأولى عالمياً، ومركز كارنيجي ثالثاً، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) رابعاً، وراند سابعاً، ومجلس العلاقات الخارجية (CFR) ثامناً، ومركز وودرو ويلسون عاشراً. وتحظى مراكز التفكير الأمريكية بميزانية سنوية عالية تقدر بنحو 29 مليون دولار للمركز الواحد، في حين أن مركز راند لديه ميزانية سنوية تصل إلى 263 مليون دولار وأكثر من 2000 مختصًا، يليه مركز بروكينغز بميزانية سنوية بنحو 90 مليون دولار ونحو 530 موظفاً.
تُعد بريطانيا منافساً للولايات المتحدة بمركزين ضمن العشرة الأولى هما شاتام هاوس (House Chatham) ثانياً، والمعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية (IISS) تاسعاً.
ولبريطانيا 8 مراكز ضمن الخمسين الأولى، وألمانيا 6 مراكز، والصين 4 مراكز، وبلجيكا 4 مراكز. أما اليابان وكندا وروسيا وكوريا الجنوبية فحظيت بمركزين لكل منها ضمن هذه المجموعة. أما على مستوى المنطقة العربية والإسلامية فقد جاء فرع مركز كارنيجي الأميركي بالشرق الأوسط في لبنان بالمرتبة 37، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بمصر بالمرتبة 51، ومركز إندونيسيا بالمرتبة 69، وجاء مركزان في تركيا بالمرتبة 74 و87، ومركز ماليزيا بالمرتبة 90، ومركز بنغلاديش بالمرتبة 97.
شاركت مراكز التفكير السعودية في هذا التصنيف بـ7 مراكز دراسات وطنية لم يدخل منها ضمن مؤشر التصنيف العالمي غير مركز واحد هو مركز الخليج للأبحاث الذي حل في المرتبة 125 عالميًا والمرتبة 8 على مستوى الشرق الأوسط.
تحظى الدول والاقتصادات الكبرى بأكثر مراكز تفكير.
ويبدو أن مراكز التفكير البارزة عالميًا تستأثر بدعم مادي ومعنوي ولوجستي سخيًا من القطاع الحكومي والخاص إيمانًا بقدرتها الفعالة على دعم القرار، بينما تفتقر مراكز تفكير الدول النامية لذلك الدعم، مما يوحي بضعف وتراجع دورها في توجيه وصناعة القرار، وبالتالي يظل القرار مشوهًا.
مرتكزات بيئة بحثية ملائمة لمراكز التفكير تحددها الشروط والظروف اللازمة لبحث علمي فعال يتضح فيه هدف ومهمة مركز التفكير بشكل دقيق في تخصص معين أو عدد محدد من التخصصات على يتم نوع ومستوى التحليل، وتتلخص أبرز مرتكزات مراكز التفكير في خمسة مرتكزات:
- إرادة وطنية جادة تؤمن بأن القرار المنتج بفكر حتمية لا يمكن تجاوزها، وأن مصدره مراكز تفكير مجهزة بأحدث التجهيزات والتقنيات.
- مجموعة مختارة بعناية من المبدعين والأكاديميين والخبراء والمفكرين، مع أهمية المزج بين العلم والمعرفة والخبرة والممارسة العملية.
- قيادة واعية تمتلك المبادرة، والتواصل الفعال مع مراكز الفكر العالمية، وتعمل على تحفيز الفكر والإبداع واستثمار العقول والجهود بدرجة عالية من الكفاءة.
- دعم مالي سخي ميسر إجراءات الصرف يشترك فيه القطاعين الحكومي والخاص.
- بيانات ومعلومات دقيقة وحديثة تمكن من إعداد السيناريوهات، والاستشراف والاستشفاف للمستقبل. تتصف هذه المرحلة بأنها مرحلة القرارات الاستراتيجية الحرجة التي نتطلع إلى أن يكون لصناع القرار إرادة جادة فيها بتعاون القطاع الحكومي والقطاع الخاص والشروع في إنشاء عدد كبير من مراكز التفكير الوطني التي لها أن تتخطى المئات إلى خانة الألف توفر لها الإمكانات المادية والبشرية والتقنيات وقواعد البيانات في وقت حرج صناعة القرار المناسب فيه ذات تكلفة عالية لمراكز التفكير في وطننا الفصل فيها بدخول مرحلة جديدة الوطن أحوج ما يكون إليها يمكن أن توصف بترشيد القرار الذي تدعمه مراكز تفكير سعودية تتبنى مناهج بحثية رصينة لصياغة ودعم القرار بفكر وتحليل متعمق تنصهر فيه العقول والتجارب والخبرات الوطنية باستيعاب المتغيرات واستشعار المخاطر وتقييم الفرص والتحديات تحت مظلة مراكز تفكير سعودية تُجتذب إليها التخصصات الفكرية والإبداعية الوطنية، وتبرز فيها الميزات التنافسية التي تصنع من المعلومة ثروة ومن القرار تنمية بارزة المعالم تعكس ريادة القرار السعودي إقليميًا ودوليًا.