د. محمد بن عويض الفايدي
هيمنت التقنية على أنظمة المعلومات والاتصالات هيمنة تامة من خلال التحول الكلي لتوظيف المخترعات الحديثة في هذه النظم التي تتسابق في تطوير أنظمة الحاسب الآلي لمزيد من السيطرة على هذين المجالين. تختلف الجريمة السبرانية عن الجريمة بشكلها التقليدي من حيث المضامين
والأساليب، أساس ذلك أن التقدم العلمي والتقني جعل بعض المعلومات متاحة للجميع مع سهولة انتقالها إلكترونياً والاستفادة من ذلك في عمليات الاحتيالات الإلكترونية والتنصت على قواعد بيانات ومعلومات الدول والأفراد والمصارف والمستودعات المالية وابتزاز المؤسسات والشركات التجارية.
النظام الرقمي الذي يجمع بين تقنية الحاسبات وتقنية الاتصالات أدمج تلك العمليات وأصبح إرسال واستقبال البيانات والمعلومات يتم عبر شبكات اتصال رقمية متناهية الدقة.
يضيف المستقبل أبعاداً أخرى أكثر دقة وفاعلية في أنظمة المعلومات والاتصالات مما يجعل مجال الجريمة السبرانية فيهما معقداً للغاية ويتسم بصعوبة الكشف والتتبع، وبالتالي يُعد التحدي الأكبر: كيف يمكن الحصول على البينة في هذه الجرائم؟..
ميدان التقنية وحقول نموها في مجال نظم المعلومات والاتصالات أصبحت تُسير العالم وتوجه مصالحه بطريقة مذهلة، وفي هذا الزخم التقني والمعلوماتي تنمو الجريمة السبرانية جنباً إلى جنب مع مستوى تقدمها ونمائها. وعلى هذا فإن من يملك المعلومات والتقنية يملك العالم ولم يعد الحاسب الآلي وشبكات المعلومات (الإنترنت) المحدد الرئيس للمعلومات وإيصالها الفوري بقدر ما هو العمق المعلوماتي في قراءة المعلومات وتحليلها بشكل صحيح يسمح بالمقدرة على التنبؤ الدقيق الذي يُحول المعلومة إلى ثروة لها تأثيرها المباشر على التنمية والاستقرار بزيادة الفرص والفرص البديلة، وتطبيق القيمة المضافة التي تُعظم الإنتاج في السلع والخدمات.
أخذت لعبة المعلومات منحى آخر وذلك بخفض المعلومات المصنفة في قائمة السرية، ومن ثم اللعب بمهارة في تسريب ما هو مناسب من هذه المعلومات وهذه المهارة هي التي تُبرز نجاح القادة في التأثير بمجريات الأحداث واستغلال المواقف. وثم لعبة أخرى مجالها حجب المرؤوسين بعض المعلومات عن رئيسهم حتى يتاح له الدفاع عن نفسه بأنه يجهلها إذا ما ساءت الأمور.
يزداد في عصر المعلومات دور التجسس الاقتصادي ونشوء وكالات مخابرات خاصة تهيمن على تجارة المعلومات وتسبق مخابرات الدول وتنافسها.. وبالتالي سيتحول ميدان المعلومات من الأرض إلى الفضاء، وسيكون الفضاء الكوني هو ساحة التنافس في كسب رهان المعلومات الإستراتيجي الذي تتسابق إليه الدول.
الكشف بالأقمار الصناعية سيكون هو الرهان الإستراتيجي إذ إن أدوات التصوير الضوئي وأنظمة التنصت الكهرومغناطيسي تتيح كشف الإشارات الصادرة عن الأقمار الصناعية، وقد يكون السلاح الكهرومغناطيسي السلاح الإستراتيجي الأكثر فاعلية الذي ستتسابق الدول في امتلاكه وسيصبح مصدر القوة والهيمنة المؤثر في مجال السيادة والريادة الدولية وصراع الإيرادات بين الدول القوية والمؤثرة في الساحة الدولية.
لا يقتصر المجال الجوي والفضاء الكوني على سير الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية وموجات الاتصالات، ولكنه سيكون ميدان للمركبات والسيارات الهوائية ومعترك لحوادثها. تُعد هذه الميادين مجالًا واسعًا لأصناف مهيلة من جرائم الإرهاب الرقمي والجرائم السبرانية فسرقة المعلومات وتشويهها والتعديل في محتوياتها وإفسادها وتدميرها في مراكز حفظها أو في الفضاء مكنت منه التقنية وجعلته في متناول المجرمين. والتشويش على الموجات الصوتية والكهرومغناطيسية وتحويل مسارها مما تُتيحه التقنية، وستعطي مساحة أوسع لإرهاب الفضاء والتأثير على ما يحتويه من وسائل الاتصال والبرمجيات.
تُحيط المهددات بقواعد المعلومات وتجعل نسفها ممكن ومتاح في أي لحظة وبدون سابق إنذار. وقد تكون إعادة الإصلاح باهظ التكاليف المادية والفنية ويحتاج وقتاً وجهداً كبيرين. تتعرض المؤسسات العلمية والتعليمية لمخاطر شتى من سرقة الجهود العلمية ومصادرة حق الملكية الفكرية وتزوير النتائج والشهادات العلمية والسطو على أسئلة الاختبارات والتعديل في النتائج وتدمير مراكز معلوماتها كل ذلك وغيره من صنع الإرهاب الرقمي وبأسبابه.
تهيمن وسائل الإعلام على الفضاء ويعمل البث الإذاعي والتلفزيوني والصحف والمجلات وشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» ووسائل التواصل المجتمعي الواتس أب والفيس بوك والتوتر والانستقرام والسناب شات، وغيرها كسلاح ذي حدين في الخير وفي الجريمة والتطرف والانحراف وهدم الأخلاق وإفساد المبادئ والقيم النبيلة.
التشفير وتحديث وتغيير الشفرة السرية المخصصة لحماية وحصانة البيانات والمعلومات من السرقة والقرصنة والاعتداء والتدمير وسيلة حماية محل عناية واهتمام من جهات ذات مهنية تقنية عالية وتخضع للتطوير باستمرار، إلا أن قراصنة المعلومات والاتصالات يتخطون تحصينات الشفرات بالكسر والتحطيم والتخطي، وقد يستطيعون الخلوص إلى قواعد بيانات ومعلومات دول وهيئات ومؤسسات عملاقة ويعملون على إتاحتها وتحريفها والتلاعب بها والاتجار والابتزاز من خلالها.
التحريض جريمة تعاظم خطرها، وأصبح التحريض محل تجريم في أنظمة العدالة الجنائية لدى كافة دول العالم لما يُشكله من مخاطر جسيمة تُعد المحرك لقوى الإجرام والمُحفز لتنظيمات الإرهاب من خلال تخصص وسائل الإعلام والإعلام الجديد في التأثير على تنمية واستقرار الدول وزعزعة أمنها والتحريض ضدها وتأجيج الفتن في بنائها الاجتماعي، وبث الشائعات والتهديد الذي يقوض الأمن الوطني والاستقرار ويهدد مقومات التنمية الوطنية، ويضعف الروح الوطنية ويؤثر على المعنويات.
التحريض سبب رئيس في التحولات الفكرية السريعة لصغار السن الذين يتم تجنيدهم وتحفيزهم فكريًا وتغيير مفاهيمهم وتوجيه سلوكهم والتحكم بتصرفاتهم في زمن يسير عبر الفضاء السبراني الذي من خلاله تنفذ العمليات الافتراضية وتوجه الهجمات وتتفادى الضربات وتنفذ التوجيهات، والذي بدوره يجعل التأمل وارد في مجمل هذه القضايا التي تبدو حتمية المراجعة.. ذلك لأنها استغلت مساحة واسعة في الفضاء السبراني لارتكاب الجرائم السبرانية، ومساندة وتعزيز إجراءات وممارسات التنظيمات المقرضة للإرهاب وفي مقدمتها تنظيم داعش -شركة داعش للإرهاب الدولي- في مجال الاستقطاب والاقناع إلى التهيئة والإعداد والتجنيد والتدريب والتمويل والتجهيز والتجسير والتأييد والتفخيخ والتفجير، ومن ثم الإمعان في القتل بأساليب إجرامية موغلة في الإجرام والتشفي.
الجرائم السبرانية هي التي يُستخدم الفضاء الكوني في ارتكابها، وتتخطى الحدود بين الدول، وتعبر القارات، وتمتد أثارها متخطية كل الحواجز والتحصينات، وتتيح خصائص نظم المعلومات والاتصالات جرائم سبرانية جسيمة وإرهاب الإلكتروني مظلم ومتجدد قد لا تطاله اجهزة العدالة الجنائية ويصعب عليها ضبط المتهمين والحصول على الدليل والكشف عن القرائن المثبتة للجريمة.. ناهيك عن جديدها الذي لا يهدأ مما يجعل الكشف عن الدليل والمحافظة عليه وتخزينه ونقله وتقديمه أمام القضاء والترافع به مهمة في غاية الصعوبة.
توسيع دائرة التجريم والعقاب وسن القوانين الجامعة والمانعة بتطوير تشريعات المعلومات والاتصالات، وأنظمة وقوانين التعاملات الإلكترونية، وتوسيع محيط الضبط، وتعميق الأبعاد الجنائية ضد الممارسات الإلكترونية، وتوسيع دائرة التعاون الإقليمي والدولي مسائل لا تحتمل التأخير.
بات التدريب التقني الدقيق حتميًا لمنفذي أنظمة العدالة الجنائية في القضاء الشرعي والقضاء الإداري وأجهزة الضبط القضائي والإداري وجهات تلقي البلاغات. ولعل التعاملات الإلكترونية أضحت مسلمة إجرائية تتطلب تجسير وتدعيم الإجراءات بتجهيزات تقنية متقدمة عالية الجودة وبمهارات احترافية مهنية متمكنة تواكب اتجاهات الجريمة السبرانية ومستجدات الإرهاب غير التقليدي الذي قد يكون الإرهاب النووي والبيولوجي والكيميائي مجاله في ظل الصراعات العسكرية الإقليمية والمصالح والتدخلات الدولية المباشرة وغير المباشرة فيها التي جعلت من تنظيمات الإرهاب شركات عابره للقارات يمكن أن تتسرب إليها الأسلحة غير التقليدية بأدوات دولية تمكنها من بلوغ أهدافها الإرهابية عن بعد عبر الفضاء السبراني.