د. جاسر الحربش
البيت المصمت المغلق النوافذ لا تدخله الشمس ولا يتجدد فيه الهواء. الظلام والهواء الفاسد وغياب أشعة الشمس تقدم البيئة المثالية لسيطرة الكائنات والهوام التي لا تعيش إلا في الظلام. الوحوش الإرهابية التي نراها تعيث في البلدان الإسلامية فسادا ً ماهي سوى الهوام التي تتكاثر في الظلام وتسبب الدمار والإنهيار.
يقدم لنا تاريخ الأمم وقائع ملهمة عن مصائر امبراطوريات ودول وتجمعات بشرية حاولت عزل نفسها بإغلاق الأسوار من حولها وقفل المنافذ ومنع التواصل مع غيرها بطريقة البيت المصمت بلا نوافذ. الإمبراطورية الصينية القديمة أحاطت نفسها بسور طوله عشرة آلاف ميل، وعندما بدأ تآكلها الداخلي قبل تعرضها للغزو بسبب العزلة عن الآخرين سقطت الإمبراطورية على أيادي رعاة السهوب البدائيين من رعاع المغول. كل ما فعله المغول عندما وجدوا السور يحيط بالإمبراطورية الصينية كان المساعمة في إحكام الحصار وتعزيز العزلة التي اختارها الصينيون لأنفسهم. كان القادة المغول يعرفون أن من بداخل السور الصيني سوف يفترس بعضه وتتآكل الموارد ثم تسقط الصين.
في التاريخ الحديث (القرن الماضي) حاولت ألمانيا الشرقية الشيوعية حماية نفسها ضد التأثير الثقافي والفكري والإنتاجي القادم من برلين الغربية الرأسمالية. برلين كانت العاصمة الألمانية القديمة التي قسمتها الهزيمة في الحرب العالمية الثانية إلى مدينتين، برلين الشرقية أصبحت عاصمة لجمهورية ألمانيا الشرقية الشيوعية وبرلين الغربية التي أصبحت محاطة من كل الجهات بأراضي ألمانيا الشرقية ولكنها تتبع سياديا ً لألمانيا الغربية الرأسمالية. في الحقيقة كانت جمهورية ألمانيا الشرقية اللصيقة جغرافيا ً بالغرب الرأسمالي قد أحاطت نفسها بالكامل بسور من الأسلاك الشائكة ونقاط المراقبة والرقابة الصارمة لمنع اختراق أي شخص أو مادة أو مطبوعة لحدودها. في النهاية سقطت ألمانيا الشرقية وتبعها ما سمي بعالم السور الحديدي الشيوعي، ليس بفعل الحروب العسكرية ولا بقوة التأثير الدعائي الغربي، وإنما بتآكل سلطاتها السياسية والعسكرية والاجتماعية في الداخل المغلق.
البيت المصمت بلا نوافذ يقدم أوضح تعبير عن الخوف من غزو متخيل من خارج الأسوار، لكنه في نفس الوقت يهمل المشاكل الحتمية التي سوف تنشأ لا محالة في داخله بسبب الاحتكاك اللصيق اليومي بين ساكنيه وسطوة الردع الذي يفرضه المستفيد من أحادية الفكر. في النهاية يسقط هذا البيت مثل بيت آل أشر في أشهر قصة من أدب الرعب للكاتب الأمريكي إيدجار ألن بو.
في بعض فترات التاريخ يحصل في الدول ما يحصل في البيت المصمت بدون نوافذ بسبب الشك في المناعة الذاتية وعدم الثقة بالنفس لمقاومة الغزو الفكري أكثر من الخوف من الغزو العسكري. المشكلة هي أن الانقطاع عن التواصل العلمي والفكري والتطويري مع العالم لا يلغي الحاجة إلى ما ينتجه هذا العالم من مستجدات. أعتقد أن العالم الإسلامي عاش لعدة قرون في عزلة اختيارية بعيداً عن التطور العالمي والفكري والحقوقي، بالرغم من استمراره مضطرا ً لتسوق حاجياته من العالم مقابل استنزاف ثرواته الطبيعية أو بتصدير العمالة الرخيصة إلى العالم. نتائج قفل الشبابيك دون الهواء والشمس هي ما نراه من حروب مذهبية وقتل على الهوية وإرهاب اجتماعي في العالم الإسلامي على وجه الخصوص. العالم الإسلامي يمر الآن بحقبة كشرت فيها هوام الظلام عن أنيابها لأنها استشعرت استعداد القيادات السياسية والأجيال الشبابية المتعلمة لفتح الشبابيك. التوسع في البعثات الخارجية والمبادرة بفتح المسارح التثقيفية ودور السينما الملتزمة بالجودة الأخلاقية والتربوية تشكل بدايات هامة في طريق فتح الشبابيك على العالم ليدخل النور ويطرد الظلام وتختفي الهوام.