د.ثريا العريض
في الوقت ذاته الذي تعقد فيه المؤتمرات العالمية في شتى أصقاع الأرض للبحث عن حلول مُرضية، تخفف النتائج الكارثية إنسانياً للصراعات المستشرية في كوكبنا المأزوم، ويبادر الكثيرون ممن يحملون الشعور بالمسؤولية لمساعدة الغير، ورفع المعاناة عنهم، ما زال هناك أيضاً من يرى أن تدفق اللاجئين مسألة أزمة قادمة كعاصفة مدمرة، تعني إغلاق الحدود والأبواب والنوافذ لحماية السكان الأصليين، وانتظار مرور العاصفة دون التعرض لما تحمله معها من لاجئين، لا يرون فيهم إلا عوالق وشوائب مؤذية.
لم أتوقع ما استجد قبل انعقاد مؤتمر برلين للسياسات الخارجية الذي ترعاه مؤسسة كروبر ووزارة الخارجية والحكومة الفدرالية الألمانية، وافتتحه رئيس الوزراء الألماني، ويشارك فيه وزير الخارجية وعدد كبير من مسؤولين مهمين دولياً؛ فقد خرجت يوم السبت الماضي مظاهرات حاشدة في برلين وغيرها من المدن الألمانية، شارك فيها آلاف الأشخاص للتعبير عن رأيهم في مسألة استقبال اللاجئين. ما يقارب من 3500 شخص عبّروا عن رفضهم لتقبل تدفق حشود اللاجئين من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا إلى أوروبا، وإلى ألمانيا بالذات. ونحو 7000 تجمعوا ليعلنوا دعمهم لموقف الرئيسة آنجيلا ميركل في كون قضية اللاجئين قضية إنسانية، لا بد من القيام بدور إنساني في حلها منطلقين من المبادئ والقيم المتحضرة.
قضية اللاجئين وإيجاد حلول بالاتفاق على موقف موحد بين أعضاء الاتحاد الأوروبي كانت على قائمة أجندة المؤتمر، ولكن بعض المواطنين - ولا أقول كلهم - مصرون على إعلان رأيهم بالرفض مسبقاً لأي حل يتضمن الترحيب بحشود اللاجئين المتزايدة. ففي حين أن موقف الرئيسة آنجيلا ميركل داعم وبقوة لمساعدة الفارين بأطفالهم براً وبحراً من الموت بسبب العنف والجوع والموت في بلادهم، إلا أن نسبة من المواطنين لا يرون ذلك مسؤولية إنسانية ملزمة، بل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً يلوح بخطر مقبل. وفي دول أخرى في الاتحاد الأوروبي اتُّخذ القرار بإغلاق الحدود الدولية، وتشبيك الطرق، وإيقاف رحلات القطارات والباصات التي تحمل اللاجئين شمالاً وغرباً إلى الداخل باتجاه دول الشمال الأوروبي. في السويد والنرويج مثلاً تكرر إحراق الملاجئ المعدة لاستقبال اللاجئين.
المشكلة ليست أزمة موقع آمن آني فقط، بل لها انعكاسات وتداعيات مستقبلية أيضاً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. وإذا كانت ويلات الحروب ودموية الصراعات وجرائم الإرهاب الوحشية دفعت الملايين للهجرة من أراضي أوطانهم فهناك قضية أخرى هي مصير الباقين الذين لم يستطيعوا التحرك بعيداً، وظلوا في ركام المدن وأطلال القرى المهدمة في الدول المبتلاة، عدا الآخرين في المخيمات التي أعدتها دول الجوار لاحتوائهم وإنقاذهم مؤقتاً.
أغلب اللاجئين لا ينوون العودة في المستقبل القريب؛ فقد عايشوا في أوطانهم معاناة وعذاباً أدمى مشاعرهم وأجسادهم في السنوات الماضية. ولا ألومهم فيما يشعرون به. وفي الوقت ذاته ليس منطقياً مطالبة أية دولة أو مجموعة دول بفتح أبوابها لاستقبال ملايين المجهولين الغرباء الذين قد يحملون من التوجهات الفكرية والندوب العاطفية ما يجعلهم بذوراً لاستنبات المشكلة في مواقعهم الجديدة.
ألمانيا أعلنت حلاً مقترحاً ليتبناه الاتحاد الأوروبي، هو اقتصار قبول المهاجرين إلى أوروبا، باختيار المؤهلين فقط بالمهارات المهنية المطلوبة للمشاركة في تنمية المجتمعات التي تتبناهم. أما لوقف حشود اللاجئين فالمقترح أن تدفع الدول الأوروبية لدولهم الأم مقابل استعادتهم إليها.
ويبقى السؤال: هل حل مشكلة اللاجئين يتم فقط بمداولات واتفاق مسؤولي الحكومات؟ ماذا عن اللاجئين أنفسهم الذين تكبدوا كل هذا العناء، وواجهوا مخاطر الموت في الطريق؟.. هل معاناتهم ورغباتهم لا قيمة لها في تقرير مصيرهم؟ هنا أتيقن أن معنى «الوطن» ليس واحداً عند الجميع.
الوطن ليس أرضاً صادف أن كانت مسقط رأس وقت الولادة، أو موقع قدم بعد الهجرة، بل حقوق انتماء يحميها القانون. الوطن هو الموقع الذي تجد فيه سقفاً يحميك من الخوف والظلم؛ لتنام في الليل وأنت تشعر بالأمان أن جارك لا يستطيع أن يعتدي عليك، لمجرد أنه لا يعترف بحقك في العيش مثله.